يكن الخلاف في هذه المسألة قد بلغ إلى ما انتهي إليه في عصر المأمون. وقد كان لهذه الخلافات أثر كبير في العلم والأدب والسياسة. أما أثرها في العلم فإن النظر في الخلافة يستتبع النظر في معنى الرئاسة ومهمتها ومصدرها وشروطها. والنظر في الإرادة والاختيار يستتبع النظر في عدل الله وحكم العقل واستحقاق الإنسان للثواب والعقاب. والنظر في مرتكب الكبيرة يستتبع النظر في حقيقة الإيمان والكفر وعلاقة الناس بعضهم ببعض. والنظر في إمكان رؤية الله يستتبع النظر في سر الوجود وصفات الموجد والقدم والحدوث.
إن النظر في هذه المسائل وما إليها ينتمي حتما إلى الكائنات وأسبابها. أما أثرها في الأدب فقد وقف الشعراء ينصر بعضهم هذا المبدأ ويدعو إليه، وبعضهم يحاربه ويدعو إلى غيره.
وكان أثرها في السياسة أظهر وأبلغ. لأن الكثير منها يتعلق بالحاكمين وشرعية حكمهم، وعلاقة المحكومين بهم، ولذا رأينا رجال الدولة ينكلون بكل عالم لا تتفق سياستهم مع أقواله وآرائه، ويقربون إليهم كل من وجدوا في قوله مبررا لظلمهم واستبدادهم. ومن هنا قال بعض الباحثين إن هذه الخلافات كانت في بدء أمرها سياسية، ثم تغلب الجانب الديني على الجانب السياسي.
وإذا لا حظنا أن النهضة العلمية عند المسلمين، والانقسامات المذهبية، والخلافات السياسية يبدأ تاريخ أكثرها بعهد الإمام الصادق، ولا حظنا مع هذا ما اتفقت عليه أهل السير والتراجم من أن الإمام الصادق ابتعد عن السياسية كل البعد، وانصرف انصرافا تاما للعلم، إذا لا حظنا ذلك كله فلا ندهش لما قرأناه من أن أصحاب الحديث جمعوا أسماء الرواة الثقات عن الصادق فكانوا أربعة آلاف رجل، ولما سطره ابن حجر في " صواعقه ": إن الناس نقلوا عن الصادق من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، ولما قاله فريد وجدي في " دائرة معارف القرن العشرين ": ألف جابر بن حيان في الكيمياء كتابا يشتمل على ألف ورقة، يتضمن رسائل جعفر الصادق، وهي خمس مائة رسالة، ولما ذكره الشهرستاني في " الملل والنحل ": كان الصادق، ذا علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد في الدنيا، وورع تام عن الشهوات أقام مدة بالمدينة يفيد الشيعة، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل