عنها، مقتفيا لآثاره لا يفارقها، واطيا لعقبه صلى الله عليه وآله لا يجاوزها، حتى نقله الله إلى جواره واختار له دارا خيرا من داره، فمضى محمود الأثر مشكور الورد والصدر، مستبدلا بدار الصفا من دار الكدر، قد لقى محمدا صلى الله عليه وآله بوجه لم يشوهه التبديل، وقلب لم تزدهه الأباطيل.
قال علي عليه ا لسلام يوما وقد أحدق به الناس: أحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة وليست بدار نجعة هانت على ربها فخلط شرها بخيرها وحلوها بمرها، لم يصفها لأوليائه ولم يضن بها على أعدائه وهي دار ممر لا دار مستقر، والناس فيها رجلان، رجل باع نفسه فأوبقها ورجل ابتاع نفسه فأعتقها، ان اعذوذب منها جانب فجلا أمر منها جانب فأوبى، أولها عناء وآخرها فناء من استغنى فيها فتن. ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها أتته. ومن أبصرها بصرته. ومن أبصر إليها أعمته، فالانسان فيها غرض المنايا مع كل جرعة شرق ومع كل أكلة غصص لا ينال منها نعمة إلا بفراق أخرى.
وكلامه عليه السلام في الدنيا وصفتها والتنبيه على أحوالها ومعرفتها وكثرة خدعها ومكرها، وتنوع افسادها وغرها وإيلامها بنيها وضرها كثير جدا وهو موجود في تضاعيف الكتب وفي نهج البلاغة فيستغنى بما هناك عن ذكرها هنا لئلا نخرج من غرض الكتاب ولما علمه من حال الدنيا رفضها وتركها، وترفع عنها وفركها وعاملها معاملة من لم يدركها، وخاف على نفسه في مهاويها، فما انتهجها ولا سلكها وخشي أن تملكه بزخارفها فلم يحفل بها لما ملكها، واحترز من آلامها وآثامها وخلص من أمراضها وأسقامها، وعرفها تعريف خبير بحدها ورسمها، وأنزلها على حكمه ولم ينزل على حكمها فصار زهده مسألة اجماع لا شك فيه ولا انكار، وورعه مما اشتهر في النواحي والأقطار، وعبادته ونزاهته مما أطبق عليه علماء الأمصار، وهو الذي فرق