وإلا فهذا دأبي ودأبكم أبدا فكونوا من ذلك على يقين. قال: فبادر القوم إلى العباس بن مرداس فأحاطوا به من كل جانب حتى نكسوه عن فرسه ثم كتفوه ودفعوه إليه ومضى القوم على وجوههم.
وأقبل الهلقام بالعباس إلى موضع الوقعة وغلمانه وقوف على عامر بن الطفيل وعنترة بن شداد، فقال لغلمانه: اجمعوا علي ما قدرتم عليه من غنائم هؤلاء القوم، فجمع غلمانه شيئا مما تخلف عن القوم، فجعل الهلقام يسوق الغنائم بين يديه وهؤلاء الثلاثة يساقون مع الغنائم نحو باب الخيمة والهلقام من ورائهم وقد رفع صوته ثم نزل عن فرسه على باب الخيمة، فخرجت إليه بنت عمه فجعلت تمسح وجهه بردائها، وخرجت إليه أخته فأخذت عنه سلاحه، وتقدمت إليه أمه فقبلت بين عينيه، ثم إنها حطت عن الفرس السرج واللجام وأقامتها على مذودها (1).
قال: وقعد الهلقام ثم دعا بالطعام فأكل، فلما فرغ من طعامه أمر فقرب إلى هؤلاء الثلاثة المائدة بعد أن أطلقهم من كتافهم فأكلوا، فلما فرغوا من طعامهم أمر بهم فأعيدوا في كتافهم، ثم رفع صوته.
قال: فمكث هؤلاء القوم في يده شهرا كاملا ونحو ذلك لا يكلمهم ولا يسألهم عن شئ غير أنه يجري عليهم من الطعام ما يقوتهم والقوم يمنعهم الحياء أن يسألوه التخلية عنهم بما كانوا ارتكبوا منه وتعرضوا لحرمته وبغوا عليه.
فلما كان بعد شهر اتصل الخبر ببني عمه فسرهم ما كان منه، ثم انهم صفحوا عنه وعن دم قتيلهم، وسألوه أن يصير إليهم، فتهيأ لذلك وهيأ الرواحل لامه وأخته وامرأته وغلمانه، ثم أمر أن تهيأ ثلاثة رواحل لهؤلاء الثلاثة ليحملهم إلى قومه، فشق ذلك عليهم وجعل عامر بن الطفيل يقول لعنترة وللعباس بن مرداس: ويحكما إنه متى حملنا هذا الغلام إلى قومه فذاك هو العار الذي لا يغسل عنا أبدا ولكن ذروني أتكلم بما أريد فأسأله الصفح فلعله أن يفعل، فقالا له: شأنك يا عامر، فخرج إليه عامر بن الطفيل والفتى قاعد على باب الخيمة فحياه بتحية الجاهلية ثم قال له:
يا سيد الفتيان كلها قاطبة غير مدافع أتأذن لأسيرك في الكلام؟ فقال له الهلقام:
تكلم ما أحببت، فأنشأ عامر بن الطفيل يقول أبياتا من جملتها: