أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين، لا يزال بنينهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) * [التوبة: 106 - 110] وقد تكلمنا على تفسير ما يتعلق بهذه الآيات الكريمة في كتابنا التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد. وذكر ابن إسحاق كيفية بناء هذا المسجد الظالم أهله وكيفية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرابه مرجعه من تبوك قبل دخوله المدينة، ومضمون ذلك أن طائفة من المنافقين بنوا صورة مسجد قريبا من مسجد قباء وأرادوا أن يصلي لهم رسول صلى الله عليه وسلم فيه حتى يروج لهم ما أرادوه من الفساد والكفر والعناد، فعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الصلاة فيه وذلك أنه كان على جناح سفر إلى تبوك، فلما رجع منها فنزل بذي أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة - نزل عليه الوحي في شأن هذا المسجد وهو قوله تعالى * (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) * الآية. أما قوله ضرارا فلأنهم أرادوا مضاهاة مسجد قباء، وكفرا بالله لا للايمان به، وتفريقا للجماعة عن مسجد قباء وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وهو أبو عامر الراهب الفاسق قبحه الله وذلك أنه لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام فأبى عليه، ذهب إلى مكة فاستنفرهم، فجاؤوا عام أحد فكان من أمرهم ما قدمناه، فلما لم ينهض أمره ذهب إلى ملك الروم قيصر ليستنصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو عامر على دين هرقل ممن تنصر معهم من العرب وكان يكتب إلى إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين، فبنوا هذا المسجد في الصورة الظاهرة وباطنه دار حرب ومقر لمن يفد من عند أبي عامر الراهب، ومجمع لمن هو على طريقتهم من المنافقين. ولهذا قال تعالى * (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) * ثم قاتل * (وليحلفن) * أي الذين بنوه * (إن أردنا إلا الحسنى) * أي إنما أردنا ببنائه الخير. قال الله تعالى * (والله يشهد إنهم لكاذبون) * ثم قال الله تعالى إلى رسوله * (لا تقم فيه أبدا) * فنهاه عن القيام فيه لئلا يقرر أمره ثم أمره وحثه على القيام في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم وهو مسجد قباء لما دل عليه السياق والأحاديث الواردة في الثناء على تطهير أهله مشيرة إليه، وما ثبت في صحيح مسلم من أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينافي ما تقدم لأنه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم فمسجد الرسول أولى بذلك وأحرى، وأثبت في الفضل منه وأقوى، وقد أشبعنا القول في ذلك في التفسير ولله الحمد. والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بذي أوان دعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي - أو أخاه عاصم بن عدي - رضي الله عنهما فأمرهما أن يذهبا إلى هذا المسجد الظالم أهله فيحرقاه بالنار، فذهبا فحرقاه بالنار، وتفرق عنه أهله.
قال ابن إسحاق: وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا وهم، خذام بن خالد - وفي جنب داره