وأقول: رأيت في بعض الكتب أن في الأوقات اشتد القحط وعظم حر الصيف والناس خرجوا إلى الاستسقاء فلما أبلحوا (1) قال: خرجت إلى بعض الجبال فرأيت ظبية جاءت إلى موضع كان في الماضي من الزمان مملوا من الماء ولعل تلك الظبية كانت تشرب منه، فلما وصلت الظبية إليه ما وجدت فيه شيئا من الماء، وكان أثر العطش الشديد ظاهرا على تلك الظبية فوقفت وحركت رأسها إلى جانب السماء فأطبق الغيم وجاء الغيث الكثير.
ثم إن أنصار هذا القول قالوا: لما بينا بالدليل أن هذه الحيوانات تهدي إلى الحيل اللطيفة فأي استبعاد في أن يقال: إنها تعرف أن لها ربا ومدبرا وخالقا؟ وهذا تمام القول في دلائل هذه الطايفة.
واحتج المنكرون لكونها عاقلة عارفة بأن قالوا: لو كانت عاقلة لوجب أن تكون آثار العقل ظاهرة في حقها، لان حصول العقل لها مع أنه لا يمكنها الانتفاع البتة بذلك العقل عبث، وذلك لا يليق بالفاعل الحكيم، إلا أن آثار العقل غير ظاهرة فيها، لأنها لا تحترز عن الافعال القبيحة، ولا تميز بين ما ينفعها وبين ما يضرها فوجب القطع بأنها غير عاقلة.
ولمجيب أن يجيب فيقول: إن درجات العلوم والمعارف كثيرة واختلاف النفوس في ماهيتها محتمل، فلعل خصوصية نفس كل واحد منها لا تقتضي إلا النوع المعين من العقل، وإلا القسم المخصوص من المعرفة، فإن كان المراد بالعقل جميع العلوم الحاصلة للانسان فحق أنها ليست عاقلة، وإن كان المراد بالعقل معرفة نوع من هذه الأنواع فظاهر أنها موصوفة بهذه المعرفة، وبالجملة فالحكم عليها بالثبوت والعدم حكم على الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله، وليكن ههنا آخر كلامنا في النفوس الحيوانية والله أعلم انتهى كلامه.