الجو خفف جسمه وادمج خلقه فاقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين، ومن الأصابع الخمس على أربع، ومن منفذين للزبل والبول على واحد يجمعهما، ثم خلق ذا جؤجؤ محدد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه كما جعل السفينة بهذه الهيئة لتشق الماء وتنفذ فيه، وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران، وكسي كله الريش ليداخله الهواء فيقله، ولما قدر أن يكون طعمه الحب واللحم يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقه الأسنان وخلق له منقار صلب جاس يتناول به طعمه فلا ينسجح من لقط الحب ولا يتقصف من نهش اللحم، ولما عدم الأسنان وصار يزدرد الحب (1) صحيحا واللحم غريضا أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغنى به عن المضغ.
واعتبر ذلك بأن عجم العنب وغيره يخرج من أجواف الانس صحيحا ويطحن في أجواف الطير، لا يرى له أثر، ثم جعل مما يبيض بيضا ولا يلده ولادة لكيلا يثقل عن الطيران، فإنه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتى تستحكم لاثقلته وعاقته عن النهوض والطيران، فجعل كل شئ من خلقه مشاكلا للامر الذي قدر أن يكون عليه، ثم صار الطائر السائح في هذا الجو يقعد على بيضه فيحضنه أسبوعا وبعضها أسبوعين وبعضها ثلاثة أسابيع حتى يخرج الفرخ من البيضة ثم يقبل عليه فيزقه الريح لتتسع حوصلته للغذاء، ثم يربيه ويغذيه بما يعيش به، فمن كلفه أن يلقط الطعم ويستخرجه بعد أن يستقر في حوصلته ويغذو به فراخه؟ ولأي معنى يحتمل هذه المشقة وليس بذي، روية ولا تفكر ولا يأمل في فراخه ما يأمل الانسان في ولده من العز والرفد (2) وبقاء الذكر؟ فهذا من فعل يشهد (3) بأنه معطوف على فراخه لعلة لا يعرفها ولا يفكر فيها وهي دوام النسل وبقاؤه لطفا من الله تعالى ذكره.