جميعا، وكلها لا يرى منها إذا ماتت (1) إلا الواحد بعد الواحد يصيده قانص ويفترسه سبع، فإذا أحسوا بالموت كمنوا (2) في مواضع خفية فيموتون فيها، ولولا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتى تفسد رائحة الهواء ويحدث الأمراض والوباء، فانظر إلى هذا الذي يخلص إليه الناس وعملوه بالتمثيل الأول الذي مثل لهم كيف جعل طبعا وفي البهائم وغيرها أدكارا ليسلم الناس من معرة ما (3) يحدث عليهم من الأمراض والفساد.
فكر يا مفضل: في الفطن التي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع والخلقة لطفا من الله عز وجل لهم، لئلا يخلو من نعمه جل وعز أحد من خلقه لا بعقل وروية، فان الأيل يأكل الحيات فيعطش عطشا شديدا فيمتنع من شرب الماء خوفا من أن يدب السم في جسمه فيقتله، ويقف على الغدير وهو مجهود عطشا فيعج عجيجا عاليا ولا يشرب منه، ولو شرب لمات من ساعته فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمل الظماء الغالب خوفا من المضرة في الشرب، وذلك مما لا يكاد الانسان العاقل المميز يضبطه من نفسه، والثعلب إذا أعوزه الطعم تماوت و نفخ بطنه حتى يحسبه الطير ميتا، فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها فأخذها، فمن أعان الثعلب العديم النطق والروية بهذه الحيلة إلا من توكل بتوجيه الرزق له من هذا وشبهه، فإنه لما كان الثعلب يضعف عن كثير مما يقوي عليه السباع من مساورة الصيد، أعين بالدهاء (4) والفطنة والاحتيال لمعاشه، والدلفين يلتمس صيد الطير فيكون حيلته في ذلك أن يأخذ السمك فيقتله ويشرحه (5) حتى يطفو على