المسترشد - محمد بن جرير الطبري ( الشيعي) - الصفحة ٢٤٧
71 - وروى شريك بن عبد الله النخعي (1)، عن محمد بن عمرو بن
(١) - هو: شريك بن عبد الله بن أبي شريك النخعي، أبو عبد الله الكوفي القاضي. تهذيب الكمال ج ١٢ ص ٤٦٢ الرقم ٢٧٣٦. قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج ج ٢ ص ٣٠ وروى شريك بن عبد الله النخعي، عن محمد بن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن عبد الله بن سلمة. عن أبي موسى الأشعري، قال: حججت مع عمر، فلما نزلنا وعظم الناس خرجت من رحلي أريده، فلقيني المغيرة بن شعبة، فرافقني ثم قال: أين تريد؟، فقلت: أمير المؤمنين، فهل لك؟. قال: نعم، فانطلقتا نريد رحل عمر فإنا لفي طريقنا إذ ذكرنا تولى عمر وقيامه بما هو فيه، وحياطته على الاسلام، ونهوضا بما قبله من ذلك، ثم خرجنا إلى ذكر أبي بكر، فقلت للمغيرة:؟؟ ك الخير! لقد كان أبو بكر مسددا في عمر، لكأنه ينظر إلى قيامه من بعده، وجده واجتهاده وغنائه في الاسلام، فقال المغيرة: لقد كان ذلك، وإن كان قوم كرهوا ولاية عمر ليزووها عنه، وما كان لهم في ذلك من حظ، فقلت له: لا أبالك! ومن القوم الذين كرهوا ذلك لعمر؟ فقال المغيرة: لله أنت! كأنك لا تعرف هذا الحي من قريش وما خصوا به من الحسد! فوالله لو كان هذا الحسد يدرك بحساب لكان لقريش تسعة أعشاره، وللناس كلهم عشر، فقلت: مه يا مغيرة! فإن قريشا بانت بفضلها على الناس. فلك نزل في مثل ذلك حتى انتهيا إلى رحل عمر فلم نجده، فسألنا عنه فقيل: قد خرج آنفا، فمضينا نقفو أثره، حتى دخلنا المسجد، فإذا عمر يطوف بالبيت، فطفنا معه، فلما فرغ دخل بيني وبين المغيرة، فتوكأ على المغيرة وقال: من أين جئتما؟ فقلنا خرجنا نريدك يا أمير المؤمنين، فأتينا رحلك فقيل لنا: خرج إلى المسجد، فاتبعناك. فقال: أتبعكما الخير، ثم نظر المغيرة إلي وتبسم، فرمقه عمر، فقال: مم تبسمت أيها العبد؟! فقال: من حديث كنت أنا وأبو موسى فيه آنفا في طريقنا إليك، قال: وما ذاك الحديث؟ فقصصنا عليه الخبر حتى بلغنا ذكر حسد قريش، وذكر من أراد صرف أبي بكر عن استخلاف عمر، فتنفس الصعداء ثم قال: ثكلتك أمك يا مغيرة! وما تسعة أعشار الحسد! بل وتسعة أعشار العشر، وفي الناس كلهم عشر العشر، بل وقريش شركاؤهم أيضا فيه! وسكت مليا وهو يتهادى بيننا، ثم قال: ألا أخبركما بأحسد قريش كلها؟ قلنا: بلى يا أمير المؤمنين، قال: و عليكما ثيابكما، قلنا: نعم، قال: وكيف بذلك وأنتما ملبسان ثيابكما؟ قلنا يا أمير المؤمنين وما بال الثياب؟ قال: خوف الإذاعة منها قلنا له: أتخاف الإذاعة من الثياب أنت وأنت من ملبس الثياب أخوف! وما الثياب أردت؟ قال: هو ذاك.
ثم انطلق وانطلقنا معه حتى انتهينا إلى رحله فخلى أيدينا من يده ثم قال: لا تريما و دخل فقلت للمغيرة لا أبالك! لقد أثرنا بكلامنا معه، وما كنا فيه وما نراه حبسنا إلا ليذاكرنا إياها قال: فإنا لكذلك إذ أخرج إذنه إلينا، فقال: أدخلا فدخلنا فوجدناه مستلقيا على برذعة برحل، فلما رآنا تمثل بقول كعب بن زهير:
لا تفش سرك إلا عند ذي ثقة * أولى وأفض ما استودعت أسرارا صدرا رحيبا وقلبا واسعا قمنا * ألا تخاف متى أودعت إظهارا فعلمنا أنه يريد أن يضمن له كتمان حديثه، فقلت أنا له: يا أمير المؤمنين ألزمنا وخصنا وصلنا، قال: بماذا يا أخا الأشعريين؟ فقلت بإفشاء سرك في همتك فنعم المستشاران نحن لك. قال: إنكما كذلك، فاسألا عما بدا لكما، ثم قام إلى الباب ليغلقه، فإذا الآذن الذي أذن لنا عليه في الحجرة، فقال: امض عنا لا أم لك: فخرج وأغلق الباب خلفه، ثم أقبل علينا، فجلس معنا وقال: سلا تخبرا، قلنا: نريد أن يخبرنا أمير المؤمنين بأحسد قريش الذي لم يأمن ثيابنا على ذكره لنا، فقال: سألتما عن معضلة، وسأخبركما فليكن عندكما في ذمة منيعة وحرز ما بقيت، فإذا مت فشأنكما وما شئتما من إظهار أو كتمان.
قلنا: فإن لك عندنا ذلك، قال أبو موسى: وأنا أقول في نفسي: ما يريد إلا الذين كرهوا استخلاف أبي بكر له كطلحة وغيره، فإنهم قالوا لأبي بكر: أتستخلف علينا فظا غليظا؟!
وإذا هو يذهب إلى غير ما في نفسي، فعاد إلى التنفس، ثم قال: من تريانه؟ قلنا: والله ما ندري إلا ظنا! قال: ومن تظنان؟ قلنا: عساك تريد القوم الذين أرادوا أبا بكر على صرف هذا الامر عنك، قال: كلام والله! بل كان أبو بكر أعق، وهو الذي سألتما عنه، كان والله أحسد قريش كلها. ثم أطرق طويلا، فنظر المغيرة إلي ونظرت إليه، وأطرقنا مليا لاطراقه وطال السكوت منا ومنه حتى ظننا أنه قد ندم على ما بدا منه. ثم قال: وا لهفاه على ضئيل بني تيم بن مرة! لقد تقدمني ظالما، وخرج إلي منها آثما، فقال المغيرة: أما تقدمه عليك يا أمير المؤمنين ظالما فقد عرفناه، كيف خرج إليك منها آثما؟ قال: ذاك لأنه لم يخرج إلى منها إلا بعد يأس منها أما والله لو كنت أطعت يزيد بن الخطاب وأصحابه لم يتلمظ من حلاوتها بشئ أبدا، ولكن قدمت وأخرت، وصعدت وصوبت، ونقضت وأبرمت، فلم أجد إلا الاغضاء على ما نشب به منها، والتلهف على نفسي، وأملت إنابته ورجوعه، فوالله ما فعل حتى نغز بها بشما.
قال المغيرة: فما منعك منها يا أمير المؤمنين، وقد عرضك لها يوم السقيفة بدعائك إليها! ثم أنت الآن تنقم وتتأسف؟ قال: ثكلتك أمك يا مغيرة! إني كنت لأعدك من دهاة العرب، كأنك كنت غائبا عما هناك! إن الرجل ماكرني فماكرته، وألفاني أحذر من قطاة، إنه لما رأى شغف الناس به، وإقبالهم بوجوههم عليه، أيقن أنهم لا يريدون به بدلا، فأحب لما رأى من حرص الناس عليه، وميلهم إليه، أن يعلم ما عندي، وهل تنازعني نفسي إليها! وأحب أن يبلوني بإطماعي فيها، والتعريض لي بها، وقد علم وعلمت لو قبلت ما عرضه علي لم يجب الناس إلى ذلك، فألفاني قائما على أخمص مستوفزا حذرا ولو أجبته إلى قبولها لم يسلم الناس إلي ذلك، واختبأها ضغنا علي في قلبه، ولم آمن غائلته ولو بعد حين: مع ما بدا لي من كراهة الناس لي: أما سمعت نداءهم من كل ناحية عند عرضها علي: لا نريد سواك يا أبا بكر، أنت لها! فرددتها إليه عند ذلك، فلقد رأيته التمع وجهه لذلك سرورا. وقد عاتبني مرة على كلام بلغه عني، وذلك لما قدم عليه بالأشعث سيرا، فمن عليه وأطلقه، وزوجه أخته أم فروة، فقلت للأشعث وهو قاعد بين يديه:
يا عدو الله أكفرت بعد اسلامك، وارتددت ناكصا على عقبيك! فنظر إلي علمت أنه يريد أن يكلمني بكلام في نفسه، ثم لقيني بعد ذلك في سكك المدينة، فقال لي: أنت صاحب الكلام يا بن الخطاب؟ فقلت: نعم يا عدو الله، ولك عندي شر من ذلك، فقال: بئس الجزاء هذا لي منك! قلت: وعلام تريد مني حسن الجزاء؟ قال: لا نفتي لك من اتباع هذا الرجل والله ما جرأني على الخلاف عليه إلا تقدمه عليك، وتخلفك عنها، ولو كنت صاحبها لما رأيت مني خلافا عليك. قلت: لقد كان ذلك، فما تأمر الآن؟ قال: إنه ليس بوقت أمر، بل وقت صبر، ومضى ومضيت. ولقى الأشعث الزبرقان بن بدر فذكر له ما جرى بيني وبينه، فنقل إلى أبي بكر، فأرسل إلي بعتاب مؤلم، فأرسلت إليه: أما والله لتكفن أو لأقولن كلمة بالغة بي وبك في الناس، تحملها الركبان حيث ساروا وإن شئت استدمنا ما نحن فيه عفوا، فقال: بل نستديمه، وإنها لصائرة إليك بعد إيام، فظننت أنه لا يأتي عليه جمعة حتى يردها علي، فتغافل، والله ما ذكرني بعد ذلك حرفا حتى لك.
ولقد مد في أمدها عاضا على نواجذه حتى حضره الموت، وأيس منها فكان منه ما رأيتما، فاكتما ما قلت لكما عن الناس كافة وعن بني هاشم خاصة، وليكن منكما بحيث أمرتكما، قوما إذا شئتما على بركة الله. فقمنا ونحن نعجب من قوله، فوالله ما أفشينا سره حتى هلك.
أقول: وروى أيضا السيد المرتضى رحمه الله في كتابه الشافي ج 4، ص 129 مع اختلاف جزئي.