فقد ذكرنا معنى الشرب انه ايصال ما لا يحتمله المضغ من المائعات إلى الجوف حتى لو حلف لا يشرب فأكل لا يحنث كما لو حلف لا يأكل فشرب لا يحنث لان الأكل والشرب فعلان متغايران قال الله تبارك وتعالى وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض عطف الشرب على الاكل والمعطوف غير المعطوف عليه وإذا حلف لا يشرب ولا نية له فأي شراب شرب من ماء أو غيره يحنث لأنه منع نفسه عن الشرب عاما وسواء شرب قليلا أو كثيرا لان بعض الشراب يسمى شرابا وكذا لو حلف لا يأكل طعاما فأكل شيئا يسيرا يحنث لان قليل الطعام طعام ولو حلف لا يشرب نبيذا فأي نبيذ شرب حنث لعموم اللفظ وان شرب سكرا لا يحنث لان السكر لا يسمى نبيذا لأنه اسم لخمر التمر وهو الذي من ماء التمر إذا غلا واشتد وقذف بالزبد أو لم يقذف على الاختلاف وكذا لو شرب فضيخا لأنه لا يسمى نبيذا إذ هو اسم للمثلث يصب فيه الماء وكذا لو شرب عصيرا لأنه لا يسمى نبيذا وان حلف لا يشرب مع فلان شرابا فشربا في مجلس واحد من شراب واحد حنث وإن كان الاناء الذي يشربان فيه مختلفا وكذا لو شرب الحالف من شراب وشرب الآخر من شراب غيره وقد ضمهما مجلس واحد لان المفهوم من الشرب مع فلان في العرف هو ان يشربا في مجلس واحد اتحد الاناء والشراب أو اختلفا بعد ان ضمهما مجلس واحد يقال شربنا مع فلان وشربنا مع الملك وإن كان الملك يتفرد بالشرب من إناء فان نوى شرابا واحدا ومن إناء واحد يصدق لأنه نوى ما يحتمله لفظه ولو حلف لا يشرب من دجلة أو من الفرات قال أبو حنيفة لا يحنث ما لم يشرب منه كرعا وهو ان يضع فاه عليه فيشرب منه فان أخذ الماء بيده أو باناء لم يحنث وعند أبي يوسف ومحمد يحنث شرب كرعا أو باناء أو اغترف بيده وجه قولهما ان مطلق اللفظ يصرف إلى المتعارف عند أهل اللسان والمتعارف عندهم ان من رفع الماء من الفرات بيده أو بشئ من الأواني انه يسمى شاربا من الفرات فيحمل مطلق الكلام على غلبة المتعارف وإن كان مجازا بعد إن كان متعارفا كما لو حلف لا يأكل من هذه الشجرة أو من هذا القدر انه ينصرف ذلك إلى ما يخرج من الشجرة من الثمر والى ما يطبخ في القدر من الطعام كذلك ههنا ولأبي حنيفة ان مطلق الكلام محمول على الحقيقة وحقيقة الشرب من الفرات هو ان يكرع منه كرعا لان كلمة من ههنا استعملت لابتداء الغاية بلا خلاف لتعذر حملها على التبعيض إذ الفرات اسم للنهر المعروف والنهر اسم لما بين ضفتي الوادي لا للماء الجاري فيه فكانت كلمة من ههنا لابتداء الغاية فتقتضى أن يكون الشرب من هذا المكان ولن يكون شربه منه الا وان يضع فاه عليه فيشرب منه وهو تفسير الكرع كما لو حلف لا يشرب من هذا الكوز ألا ترى انه لو شرب من إناء أخذ فيه الماء من الفرات كان شاربا من ذلك الاناء حقيقة لا من الفرات والماء الواحد لا يشرب من مكانين من كل واحد منهما حقيقة ولهذا لو قال شربت من الاناء لا من الفرات كان مصدقا ولو قال على القلب كان مكذبا فدل ان الشرب من الفرات هو الكرع منه وانه ممكن ومستعمل في الجملة وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما فقال هل عندكم من ماء بات في شن والا كرعنا ويستعمله كثير في زماننا من أهل الرساتيق على أنه ان لم يكن فعلا مستعملا فذا لا يوجب كون الاسم منقولا عن الحقيقة بعد إن كان الاسم مستعملا فيه تسمية ونطقا كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل لحم الخنزير انه يحنث وإن كان لا يؤكل عادة لانطلاق الاسم عليه حقيقة تسمية ونطقا وبهذا تبين ان قلة الحقيقة وجودا لا يسلب اسم الحقيقة عن الحقيقة بخلاف ما إذا حلف لا يأكل من هذه الشجرة أو من هذا القدر لان ههنا كما لا يمكن جعل هذه الكلمة لتبعيض ما دخلت عليه بخروج الشجرة والقدر من أن يكون محلا للاكل لا يمكن جعلها ابتداءين لغاية الاكل لان حقيقة الاكل لا يحصل من المكان بل من اليد لان المأكول مستمسك في نفسه والاكل عبارة عن البلع عن مضغ ولا يتأتى فيه المضغ بنفسه فلم يكن جعلها لابتداء الغاية فاضمر فيه ما يتأتى فيه الاكل وهو الثمرة في الشجرة والمطبوخ في القدر فكان من للتبعيض وههنا أمكن جعلها لابتداء الغاية لأن الماء يشرب من مكان لا محالة لانعدام استمساكه في نفسه إذ الشرب هو البلع من غير مضغ وما يمكن ابتلاعه من غير مضغ لا يكون له في نفسه استمساك فلا بد من حامل له يشرب منه والله عز وجل أعلم ولو شرب من نهر يأخذ من
(٦٦)