الأشياء كلها منعزلة عن العلية والتأثير والخواص والآثار، إلا عادة الله جرت بإيجاد الأشياء، كالإشراق عند طلوع الشمس ووجودها، والإحراق عقيب وجود النار، والإرادة والقدرة في الإنسان، والفعل عقيب الإرادة، والعلم بالنتائج عقيب الأقيسة، وإن الأشياء على السواء كلها في عدم التأثير، لكن الجاهل بالواقع يرى ترتب الآثار على المؤثرات غفلة عن حقيقة الأمر، حتى أن قوله: " كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم " لا ينتج كل إنسان جسم، وتكون نسبته إلى النتيجة كنسبة قوله: " ضرب فعل ماض ويضرب فعل مضارع " إليها، إلا أنه جرت عادة الله على إيجادها عقيب الأولين لا الأخيرين؟
فالقائل بالتفويض يرى انعزاله تعالى عن التأثير مطلقا في غير المبادي (1)، والقائل بالجبر يرى انعزال الخلق عنه مطلقا (2) واستناد الكل إليه تعالى بلا وسط وعلى نحو المباشرة [16].
[16] أقول: إن القول بالتفويض والجبر لم يكن بدعا في الأمة الإسلامية، بل كان امتدادا للمذهبين العريقين في الديانات القديمة، فسرى في الأمة الإسلامية بعد امتزاجها بالأمم المغلوبة، كما أشرنا إليه في ابتداء هذا الشرح. وأما تعرف أول داع إلى كل منهما فمن العسير جدا.
قال في كتاب " نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ": أما أول أصحاب مذهب الإرادة الحرة في الإسلام فهو معبد الجهني، وقد نشأ معبد في المدينة لا في البصرة، ثم انتقل إلى البصرة في أواخر حياته. وقد كان من تلامذة أبي ذر الغفاري، وكان أبو ذر من أعداء عثمان والأموية.
وقد أجمعت كتب العقائد الإسلامية على أن معبد الجهني هو أول من تكلم في القدر من المسلمين، وكان يعلن أنه لا قدر والأمر آنف.