ثم إن الله تعالى لم يترك الإنسان بفطرته، لعلمه تعالى بأنه سيحجب عن الفطرة المخمورة بابتلائه بالقوى الحيوانية الشهوية والغضبية والوهمية الشيطانية، وهذه القوى معه منذ فطره، لاحتياجه إليها في عيشه وبقاءه نوعا وشخصا وفي رقاه وسيره وسلوكه إلى الله تعالى، لكن الحنين الجبلي إليها حجبه عن فطرته ومنعه عن سيره، فبعث الله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين يكون أحكامهم على طبق مقتضى الفطرة الأصلية ابتداء أو مع الواسطة، كالدعوة إلى الله ومعارفه وأسماءه وصفاته وإلى فضائل النفس وكمالاتها، وكالصلاة التي هي معراج المؤمن إليه تعالى والحج الذي هو الوفود إليه وأشباهها. أو مقتضى الفطرة التابعة كالزجر عن الكفر والشرك وعبادة الأوثان والتوجه إلى غيره وعن الأخلاق الذميمة والأفعال القبيحة مما تمنع النفس عن الوصول إلى الله والأمر بالتقوى والصوم الذي هو تقوى النفس ويكون له تعالى وهو جزاؤه [44].
وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووضع الإصر والأغلال. وقد اختص الإسلام باكتمال هذه الأمور، وإن كانت توجد في غيره بعض المراتب الضعيفة منها، فإنه تعالى وصف النبي الأكرم بتلك الأوصاف، وذلك يدل على أنها من حيث المجموع، والاكتمال من مختصاته صلوات الله عليه.
فنظام التوحيد الفطري قد سلك في تلك الكثرة وضمها وجمعها، حافظا لها في هذا السلك. والحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة.
[44] قوله (رحمه الله): " ويكون له تعالى وهو جزاؤه " إشارة إلى الحديث القدسي الشريف الذي رواه الفريقان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " قال الله - عز وجل - الصوم لي وأنا أجزي به " على لفظ " الكافي " و " الفقيه ".