فإن قلت: الأعيان واستعداداتها فائضة من الحق تعالى، فهو جعلها كذلك.
قلت: الأعيان ليست مجعولة بجعل جاعل، بل هي صور علمية للأسماء الإلهية، لا تأخر لها عن الحق إلا بالذات لا بالزمان، فهي أزلية وأبدية، والمعنى بالإفاضة التأخر بحسب الذات لا غير.
قال الشيخ الأكبر ابن عربي (فصوص الحكم): فالحاكم في التحقيق تابع لعين المسألة التي يحكم فيها بما تقتضيه ذاتها، فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم، على الحاكم أن يحكم عليه بذلك، فكل حاكم محكوم عليه بما حكم به وفيه - كان الحاكم من كان - فتحقق هذه المسألة فإن القدر ما جهل إلا لشدة ظهوره، فلم يعرف وكثر فيه الطلب والإلحاح.
قال الشارح القيصري: أي تحقق مسألة سر القدر، وإنما قال: " لشدة ظهوره " لأن كل ذي بصر وبصيرة يشاهد أن وجود الأشياء صادر من الله في كل آن بحسب القوابل، كإفاضة الصورة الإنسانية على النطفية الإنسانية، والصورة الفرسية على النطفية الفرسية، وهذا أظهر شئ في الوجود. وكما تترتب إفاضة الصور على الأشياء بالاستعداد والقابلية كذلك تترتب إفاضة لوازمها على قابلية تلك الصور، وهذا أيضا أمر بين عند العقل. وكثير من الأشياء البالغة في الظهور تختفي اختفاء لا يكاد يبدو كالوجود والعلم والزمان، وأنواع الوجدانيات والبديهيات أيضا كذلك.
والطلب والإلحاح على معرفة سر القدر من الأنبياء (عليهم السلام) إنما كان للاحتجاب فإن النبي (عليه السلام) إذا اطلع عليه لا يقدر على الدعوة وإجراء أحكام الشريعة على الأمة، بل يعذر كلا منهم فيما هو عليه لإعطاء عينه ذلك.
قال الأستاذ الإمام (قدس سره) في تعليقه على قول الشارح القيصري: " لا يقدر على الدعوة... ": ليس الاطلاع على سر القدر مانعا عن الدعوة وإجراء أحكام الشريعة فإن ذلك أيضا من سر القدر، فعين العاصي يقتضي العصيان ويقتضي إجراء الحد عليه وعين