ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت وسائر آلام الحياة ومصائبها، ولو استقل بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الأسباب الكونية والوسائل التي يرى لنفسه أنه يسودها ويحكم فيها، ثم هي كالإنسان في الحاجة إلى ما وراءها والانقياد إلى حاكم غائب عنها يحكم فيها لها أو عليها، وليس إلى الإنسان أن يسد خلتها ويرفع حاجتها.
فالحاجة إلى رب مالك مدبر حقيقة الإنسان، والفقر مكتوب على نفسه، والضعف مطبوع على ناصيته، ولولا يخفى ذلك على إنسان له أدنى الشعور الإنساني، والعالم والجاهل والصغير والكبير والشريف والوضيع في ذلك سواء. فالإنسان في أي منزل من منازل الإنسانية نزل، يشاهد من نفسه أن له ربا يملكه ويدبر أمره، وكيف ولولا يشاهد ربه وهو يشاهد حاجته الذاتية، وكيف يتصور وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه.
فقوله: ألست بربكم بيان ما أشهد عليه، وقوله: قالوا بلى شهدنا، اعتراف منهم بوقوع الشهادة وما شهدوه.
ولذا قيل إن الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا أنه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده وما يتعلق به وجوده من اللوازم والأحكام، ومعنى الآية إنا خلقنا بني آدم في الأرض وفرقناهم وميزنا بعضهم من بعض بالتناسل والتوالد وأوقفناهم على احتياجهم ومربوبيتهم لنا، فاعترفوا بذلك قائلين: بلى شهدنا أنك ربنا. وعلى هذا يكون قولهم بلى شهدنا من قبيل القول بلسان الحال أو إسنادا للازم القول إلى القائل بالملزوم، حيث اعترفوا بحاجاتهم ولزمهم الاعتراف بمن يحتاجون إليه.
والفرق بين لسان الحال والقول بلازم القول، أن الأول انكشاف المعنى عن الشئ لدلالة صفه من صفاته وحال من أحواله عليه، سواء شعر به أم ولولا ، كما تفصح آثار الديار الخربة عن حال ساكنيها وكيف لعب الدهر بهم وعدت عادية الأيام عليهم فأسكنت أجراسهم وأخمدت أنفاسهم، وكما يتكلم سيماء البائس المسكين عن