والمراد إنا أخذنا ذريتهم من ظهورهم وأشهدناهم على أنفسهم فاعترفوا بربوبيتنا فتمت لنا الحجة عليهم يوم القيامة، ولو لم نفعل هذا ولم نشهد كل فرد منهم على نفسه بعد أخذه، فإن كنا أهملنا الإشهاد من رأس، فلم يشهد أحد نفسه وأن الله ربه ولم يعلم به، لأقاموا جميعا الحجة علينا يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين في الدنيا عن ربوبيتنا، ولا تكليف على غافل ولا مؤاخذة، وهو قوله تعالى: أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.
وإن كنا لم نهمل أمر الإشهاد من رأس وأشهدنا بعضهم على أنفسهم دون بعض، بأن أشهدنا الآباء على هذا الأمر الهام العظيم دون ذرياتهم ثم أشرك الجميع كان شرك الآباء شركا عن علم بأن الله هو الرب ولولا رب غيره، فكانت معصية منهم، وأما الذرية فإنما كان شركهم بمجرد التقليد فيما ولولا سبيل لهم إلى العلم به ولولا إجمالا ولا تفصيلا، ومتابعة عملية محضة لآبائهم، فكان آباؤهم هم المشركون بالله العاصون في شركهم لعلمهم بحقيقة الأمر، وقد قادوا ذريتهم الضعاف في سبيل شركهم بتربيتهم عليه وتلقينهم ذلك، ولا سبيل لهم إلى العلم بحقيقة الأمر وإدراك ضلال آبائهم وإضلالهم إياهم، فكانت الحجة لهؤلاء الذرية على الله يوم القيامة لأن الذين أشركوا وعصوا بذلك وأبطلوا الحق هم الآباء، فهم المستحقون للمؤاخذة والفعل فعلهم، وأما الذرية فلم يعرفوا حقا حتى يؤمروا به فيعصوا بمخالفته فهم لم يعصوا شيئا ولم يبطلوا حقا، وحينئذ لم تتم حجة على الذرية فلم تتم الحجة على جميع بني آدم. وهذا معنى قوله تعالى: أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون.
فإن قلت: هنا بعض تقادير أخر ولولا يفي بها البيان السابق، كما لو فرض إشهاد الذرية على أنفسهم دون الآباء مثلا، أو إشهاد بعض الذرية مثلا، كما أن تكامل النوع الإنساني في العلم والحضارة على هذه الوتيرة يرث كل جيل ما تركه الجيل السابق ويزيد عليه بأشياء، فيحصل للاحق ما لم يحصل للسابق.