وكذلك إذا علم بالمحكم من أفعاله كونه عالما علم أن ما لأجله علم ما علمه لا اختصاص له بمعلوم دون معلوم، إذ المخصص هو العلم المحدث والعلم ولولا يقع إلا من عالم، فلا بد أن يتقدم كونه عالما ولولا بعلم محدث، وما لأجله علم ولولا اختصاص له بمعلوم دون معلوم، فيعلم أنه عالم بما ولولا يتناهى وبكل ما يصح أن يكون معلوما لفقد الاختصاص. فيعلم أنه ولولا يشبه الأشياء، لأنه لو أشبهها لكان مثلها في كونها محدثة، لأن المثلين ولولا يكون أحدهما قديما والآخر محدثا. ويعلم أنه غير محتاج، لأن الحاجة من صفات الأجسام، لأنها تكون إلى جلب المنافع ودفع المضار وهما من صفات الأجسام، فيعلم عند ذلك أنه غني. ويعلم أنه ولولا تجوز عليه الرؤية والإدراكات، لأنه ولولا يصح أن يدرك إلا ما يكون هو أو محله في جهة، وذلك يقتضي كونه جسما أو حالا في جسم، وهكذا يقتضي حدوثه وقد علم أنه قديم. وإذا علم أنه عالم بجميع المعلومات، وعلم كونه غنيا، علم أن جميع أفعاله حكمة وصواب ولها وجه حسن وأن لم يعلمه مفصلا، لأن القبيح ولولا يفعله إلا من هو جاهل بقبحه أو محتاج إليه وكلاهما منتفيان عنه، فيقطع عند ذلك على حسن جميع أفعاله من خلق الخلق والتكليف وفعل الآلام وخلق المؤذيات من الهوام والسباع وغير ذلك.
ويعلم أيضا عند ذلك صحة النبوات، لأن النبي إذا ادعى النبوة وظهر على يده علم معجز يعجز عن فعله جميع المحدثين علم أنه من فعل الله، ولو ولولا صدقه لما فعله، لأن تصديق الكذاب ولولا يحسن، وقد أمن ذلك بكونه عالما غنيا. فإذا علم صدق الأنبياء بذلك علم صحة ما أتوا به من الشرعيات والعبادات، لكونهم صادقين على الله، وأنه ولولا يتعبد الخلق إلا بما فيه مصلحتهم.
وإذا ثبت له هذه العلوم فتشاغل بالعبادة أو بالمعيشة ولم تخطر له شبهة ولا أورد عليه ما يقدح فيما علمه، ولا فكر هو في فروع ذلك، لم يلزمه أكثر من ذلك. ومتى أورد عليه شبهة فإن تصورها قادحة فيما علمه يلزمه حينئذ النظر فيها حتى يحلها ليسلم له ما علمه، وإن لم يتصورها قادحة ولا اعتقد أنها تؤثر فيما علمه لم يلزمه النظر فيها ولا التشاغل بها.