ومنهم السيرافي النحوي الحسن بن عبد الله كان ينسج ويأكل من كسب يده، ومنهم الشيخ أبو حامد الأسفرايني، قيل في سيرته: إنه إمام المذهب على الإطلاق وشيخ الإسلام والمسلمين قاطبة، وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقة، كان هذا الشيخ يشتغل حارسا في الليل لبيوت الناس، ويقرأ ويطالع على ضوء فانوس الحرس، ومنهم الزبيدي محمد بن يحيى تزيد مصنفاته على مائة تصنيف في شتى العلوم والفنون، وقد بلغ به الفقر والجوع أن يضع نواة في حلقه يلوكها ليتعلل بها. ومنهم عبد القادر السهروردي كان يبقي اليوم واليومين لا يذوق الزاد، وكان ينقل الماء بالقربة بأجر زهيد. وكان الشهيد الثاني زين الدين العاملي على علمه ومكانته ينقل الحطب على ظهره إلى أهله لعجزه عن أجرة الخادم، وباع الشيخ عبد المحسن الصوري عمامته ليشتري بثمنها قوت يومه، ويكفي هذا العدد اليسير مثالا لحياة قادة الفكر وأئمة الدين واللغة البائسين، وتمهيدا لبيان فكرة الزهد وأسبابها.
عاش الخليل في خص من القصب لا يملك فلسين، واشتغل شيخ الاسلام والمسلمين حارسا، ومات الأخفش من الجوع، عاش هؤلاء وأمثالهم في الحرمان وهم يرون أن الأموال تجبى من العامل والفلاح وغيرهما في شرق الأرض وغربها ليبذرها الخونة والمقامرون على الحرام والفسوق، ويمتلكون بها الدور الشاهقة والضياع الواسعة، وكان من نتيجة هذا الوضع الشاذ أن تراكم السخط والاستياء في نفوس الشيوخ المحرومين من الذين قدمنا ذكرهم، والذين لم نأت لهم على ذكر، وعوضا عن أن يحملهم هذا الاستياء على النضال وجهاد القائمين على الظلم، فقد انقلب في نفوس الكثير إلى يأس من الاصلاح وتبدل الحال وتولد من هذا اليأس فكرة الزهد في الحياة الدنيا، والتهوين من شأنها. وكان لهذه الفكرة خطورتها وتأثيرها في الحياة الاجتماعية بين المسلمين، فكتب علماؤهم في الزهد وأطالوا، ودعوا إليه في المساجد والمحافل، وألبسوه ثوب الدين والقداسة، والزهد بمعنى الإعراض عن طيبات الحياة ليس له مصدر في الكتاب الكريم، ولا في السنة النبوية، وإنما انعكس في أذهان البائسين من فقرهم وفاقتهم، إن أفكار الإنسان ورغباته لا تأتيه عفوا، ولا تهبط عليه من السماء، وإنما تتولد من واقع حياته، والظروف التي تحيط به.