تنفقوها على الناس فطرد، ونفي ومات في الصحراء وحيدا، بعد أن مضت عليه ثلاثة أيام لم يطعم فيها شيئا، هذا والكثير من زملائه الذين هم دونه سابقة ومنزلة عند الرسول يتدفق عليهم الذهب والفضة وتزخر حياتهم بالنعيم وأطايب العيش، وهذي سبيل الإثم والبغي ما تزال، ولن تزال متبعة ما وجد الباطل أنصارا.
اصطدم أبو ذر بأصحاب السيادة والثروة لا لأنه يطلب سلطانا ومالا، بل لأنه لا يريد أن يقوم الترف والبذخ إلى جنب الفقر والبؤس.
لم يكن أبو ذر صاحب مذهب خاص أو رأي جديد، صحب الرسول وآمن بدعوته على أنها وحي من الله سبحانه، وتفهمها على أساس العدل بين الناس أجمعين، فلا تابع ومتبوع، وسيد ومسود، وكرس حياته لتحقيق هذه الدعوة والظفر بها ولم يتخذها كغيره وسيلة للجاه والعيش، فكان ذلك سببا لأن يتخذ المصلحون من شخصيته هاديا لسلوكهم ورائدا لأهدافهم.
وأي إنسان أدرك الدين على حقيقته كما بشر به الرسل والأنبياء، أدركه على أنه رسالة إنسانية تجاوزت حدود الفردية والعنصرية والإقليمية والطائفية وإن هذه الرسالة غاية تقصد لذاتها لا وسيلة وأداة للميول والشهوات، وأخلص لها إخلاص أبي ذر يكون كأبي ذر قدوة صالحة لكل مصلح ومثلا أعلى لكل مؤمن.
ليس رجل الدين من نطق بالحكمة وحفظ الأصول والفروع، ولا من آمن بالأساطير والعفاريت والسحر والتخريف فالأول مشعوذ محترف يقلده الجاهلون باسم العلم والمعرفة، والثاني جاهل مخرف يحترمونه باسم الإيمان والقداسة، ولا شئ أعظم من خطرهما على الدين، إذ يبقي بلا قائدا ولا رائد، هذا هو السر في ضعف العقيدة الدينية انصراف الناس عن الدين وأهله.