ولولا وجود الفقراء المعذبين، لولا الطمع وظلم الإنسان للانسان، لو طبق مبدأ التعاون الأخوي، والمساواة دون اعتبار لطبقة أو فرد، لما عرف الناس معنى الزهد، ولما كان للفظه في قواميس اللغة عين ولا أثر، ويكفي للدلالة على هذه الحقيقة زهد الإمام علي عليه السلام، وأبي ذر، وغيرهما من أنصار الحق، ودعاة العدالة، قال الإمام: هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، لعل في الحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له في الشبع، وقال أبو ذر: عندما خصه عثمان بمبلغ من المال لا أقبل عطاء لا يعم كل معوز.
أعرض الهداة المتقون من الزهاد عن متاع الحياة وطيباتها لا رغبة عنها، بل احتجاجا على من استأثر بها، واحتكرها لنفسه دون سواه أرادوا أن تكون الحياة وخيراتها للجميع، أرادوها اجتماعية عامة لا فردية خاصة، أرادوا القضاء على الفوارق والامتيازات ليعيش الجميع في أمن وسلام، فلا تكالب ولا تطاحن على أرزاق الشعوب، ولا حقد ولا حسد على الرغيف.
زهد الإمام في لذائذ العيش، وهو الحاكم المطلق ليفهم الأجيال أنه ليس لمن يتولى أمور الناس أن يشبع، وفيهم جائع واحد. إن الإعراض عن متاع الحياة مواساة لمن حرم منها، كما فعل الإمام، إن دل على شئ فإنما يدل على قيمة الحياة وأهميتها لا على احتقارها وازدرائها، وقد ثبت في الحديث الشريف أن حرمة الأموال كحرمة الدماء، فالاعتداء على قوت إنسان اعتداء على دمه وحياته، فكيف بالغاصبين المحتكرين أقوات الشعوب و موارد ثرواتهم!
أما الآيات والروايات التي استدل بها بعض الزهاد، فلا تدل على الترغيب في التقشف والإعراض عن اللذائذ، إنما تدل على وجوب الزهد في المحرمات، والكلف عن السلب والنهب، والخيانة والكذب، على أن يضحي الإنسان بالنفس والمال في سبيل الحق، ولا يؤثر الخبيث على الطيب. قال الله سبحانه وتعالى:
" وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا " ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض " " لا تحرموا طيبات ما أحل لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ".
المحرم هو اعتداء الإنسان على حق أخيه، وتهاونه بنصيبه من هذا الحق.