المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة - السيد شرف الدين - الصفحة ٨٧
فصل علم الباحثون من مدققي الفلاسفة أن في مآتمنا المختصة بأهل البيت عليهم السلام أسرارا شريفة (1) تعود على الأمة بصلاح آخرتها ودنياها، أنبهك إليها بذكر
(١) قال (رحمه الله): نبهك إلى بعضها، حكيما الغربيين، فيلسوفا المستشرقين: الدكتور (جوزف) الفرنساوي في كتابه: " الإسلام والمسلمون "، والمسيو (ماربين) الألماني في كتابه " السياسة الإسلامية "، وقد ترجمت جريدة (الحبل المتين) الفارسية في العدد (٨٢) من أعداد سنة ١٧ [وقيل: في العدد (٢٨) من السنة الثامنة بتاريخ ٧ محرم سنة ١٣٢٩ ه - ١٩١١ م] فصلين من ذينك الكتابين النفيسين يحتويان على أسرار شهادة الحسين وفلسفة مآتمه عليه السلام، فكان لهما دوي في العالم الإسلامي وأخذا في الشرق دورا مهما، وترجما بالتركية والهندية، وعربهما سيدنا الشريف العلامة الباحث السيد صدر الدين الموسوي نجل الإمام الكبير حجة الإسلام، وآية الله في الأنام، قدوتنا المولى السيد إسماعيل الصدر أبقاه الله، فنشرت مجلة العلم أحد الفصلين، ومجلة العرفان نشرت الآخر، وإليك ما ذكره الدكتور (جوزف) تحت عنوان " الشيعة وترقياتها المحيرة للعقول " قال في جملة كلام له طويل:
لم تكن هذه الفرقة (يعني الشيعة) ظاهرة في القرون الإسلامية الأولى كأختها، ويمكن أن تنسب قلتهم إلى سببين:
أحدهما: إن الرئاسة والحكومة التي هي سبب ازدياد تابعي المذهب كانت من بدء الإسلام بيد الفرقة الثانية.
ثانيهما: إنه كان القتل والإغارة عليهم في كل زمان ومكان، ولهذا حكم أحد أئمتهم في أوائل القرن الثاني من الإسلام بالتقية وإخفاء مذهب الشيعة، حفظا لنفوسهم وأموالهم، فزادت في قوتهم، لأنهم حيث لم يكونوا ظاهرين لم تنلهم أيدي أعدائهم القوية بالقتل والغارة، وأقاموا المآتم تحت الستار يبكون فيها على الحسين فأثرت هذه المآتم في قلوب هذه الطائفة إلى حد أنه لم يمر عليها زمن كثير حتى بلغت الأوج في الترقي، ودخل في هذه الطائفة بعض الوزراء وكثير من الملوك والخلفاء، فبعضهم أخفى ذلك تقية، وبعضهم أظهره جهرا.
من بعد الأمير تيمور الكورگاني ورجوع سلطنة إيران قليلا قليلا إلى الصفوية، اتخذت فرقة الشيعة إيران مركزا لها، وبمقتضى تخمين بعض سائحي فرنسا أن الشيعة سدس أو سبع المسلمين - ونظرا إلى ترقي هذه الطائفة في مدة قليلة بدون إجبار أصلا يمكن القول بأنه لا يمضى قرن أو قرنان حتى يزيد عددها على عدد سائر فرق المسلمين، والعلة في ذلك، هي إقامة هذه المآتم التي جعلت كل فرد من أفرادها داعية إلى مذهبه.
اليوم لا يوجد نقطة من نقاط العالم يكون فيها شخصان من الشيعة إلا ويقيمان فيها المآتم، ويبذلان المال والطعام. رأيت في بندر (مارسل) في الفندق شخصا واحدا عربيا شيعيا من أهل البحرين يقيم المأتم منفردا جالسا على الكرسي بيده الكتاب يقرأ ويبكي، وكان قد أعد مائدة من الطعام ففرقها على الفقراء!
هذه الطائفة تصرف في هذا السبيل الأموال على قسمين، فبعضهم يبذلون في كل سنة من أموالهم خاصة في هذا السبيل بقدر استطاعتهم ما يقدر بالملايين من الفرنكات، والبعض الآخر من أوقاف خصصت لإقامة هذه المآتم، وهذا المبلغ طائل جدا، ويمكن القول بأن جميع فرق المسلمين منضمة بعضها إلى بعض لا تبذل في سبيل مذهبها ما تبذله هذه الطائفة، وموقوفات هذه الفرقة هي ضعف أوقاف سائر المسلمين أو ثلاثة أضعافها.
كل واحد من هذه الفرقة بلا استثناء سائر في طريق الدعوة إلى مذهبه، وهذه النكتة مستورة عن جميع المسلمين حتى الشيعة أنفسهم، فإنهم لا يتصورون هذه الفائدة من عملهم هذا، بل قصدهم الثواب الأخروي، ولكن بما أن كل عمل في هذا العالم لا بد أن يظهر له بطبيعته أثر، فهذا العمل أيضا يؤثر ثمرات للشيعة، من المسلم أن المذهب الذي دعاته من خمسين إلى ستين مليونا لا محالة يترقى على التدريج ترقيا لائقا بهم، حتى أن الرؤساء الروحانية، والملوك والوزراء لهذه الفرقة ليسوا بخارجين عن صفة الدعوة، فقراء وضعفاء هذه الفرقة بما أنهم حصلوا ويحصلون على فوائد كلية من هذا الطريق، فهم يحافظون على إقامة هذه المآتم أكثر من كبرائها، لأنهم رأوا في هذا العمل ثواب الآخرة وأجر الدنيا، فلهذا ترك جمع غفير من عرفاء هذه الفرقة أسباب معاشهم، واشتغلوا بهذا العمل، فهم يتحملون المشاق ليتمكنوا من ذكر فضائل كبراء دينهم، والمصائب التي أصابت أهل هذا البيت بأحسن وجه وأقوى تقرير على رؤوس المنابر وفي المجالس العامة.
وبسبب هذه المشاق التي اختارتها هذه الجماعة في هذا الفن تفوقت خطباء هذه الفرقة على جميع الطوائف الإسلامية، وحيث إن تكرار المطلب الواحد يورث اشمئزاز القلوب وعدم التأثير، فهؤلاء الجماعة يتحملون المشاق فيذكرون جميع المسائل الإسلامية العائدة لمذهبهم في هذه الطريقة على المنابر، حتى آل الأمر إلى أن أصبح الأميون من الشيعة أعرف في مسائل مذهبهم ممن يقرأون ويفهمون من الفرق الإسلامية الأخرى من كثرة ما سمعوا من عرفائهم.
اليوم إذا نظرنا في كل نقطة من نقاط العالم من حيث العدد والنفوس نرى أن أليق المسلمين بالمعرفة والعلم والحرفة والثروة هي فرقة الشيعة، دعوة هذه الفرقة غير محصورة في أهل مذهبهم أو في سائر الفرق الإسلامية، بل أي قوم وضع أفراد هذه الطائفة أقدامهم بينهم يسري في قلوب أهل تلك الملة هذا الأثر.
إن العدد الكثير الذي يرى اليوم في بلاد الهند من الشيعة هو من تأثير إقامة هذه المآتم، فرقة الشيعة حتى في زمان السلاطين الصفوية لم تسع في ترقي مذهبها بقوة السيف، بل