المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة - السيد شرف الدين - الصفحة ٨٧
ترقت هذا الترقي المحير للعقول بقوة الكلام الذي هو أشد تأثيرا من السيف، ترقت اليوم هذه الفرقة في إداء مراسمها المذهبية بدرجة جعلت ثلثي المسلمين يتبعونها في حركاتها، جم غفير من الهنود والفرس وسائر المذاهب أيضا شاركوهم في أعمالهم، وهذا أمر واضح أنه بعد مضي قرن تودع هذه الخيالات بطريق الإرث لأبناء تلك الطوائف، فيسلمون بها أو يعتقدون بذلك المذهب، وحيث إن فرقة الشيعة تعتقد أن جميع مطالبها مرتبطة بكبراء مذهبها ويطلبون المدد منهم في الحوائج والشدائد، فسائر الفرق أيضا التي تشاركهم في أفعالهم وأعمالهم تتأسى بهم كثيرا، فبمجرد مصادفة قضاء حوائجهم تزداد عقيدتهم رسوخا.
من هذه القرائن والأسباب يمكن أن يستدرك أنه لا يمر زمن قليل على هذه الفرقة حتى تتفوق من حيث العدد على جميع الفرق الإسلامية، كان أكثر هذه الفرقة إلى ما قبل قرن أو قرنين ما عدا إيران يعملون بالتقية في مذهبهم لقلة العدد، وعدم القدرة، ومن الزمن الذي استولت فيه دول الغرب على الممالك الشرقية وأعطت الحرية لجميع المذاهب، تظاهرت هذه الفرقة بمراسم مذهبها في كل نقطة، وهذه الحرية أفادتهم بدرجة أنها رفعت من مذهب الشيعة اسم التقية.
بمناسبة الأسباب التي ذكرت، وقفت هذه الفرقة على مقتضيات العصر أكثر من سائر الفرق الإسلامية، وأقدمت على كسب المعاش وتحصيل العلوم أكثر من الآخرين، ومن هذه الوجهة فالرجال العاملون الذين يعيشون بكد اليمين يوجدون فيهم أكثر من سائر فرق المسلمين، وحيث إن الغالب عليهم العمل، فالملازمون لهم وخدامهم يصيرون بالطبع تابعين لهم، وعلاوة على ذلك أنهم بواسطة الأعمال يحتاج الناس إليهم، ومحبتهم ومعاشرتهم لسائر الفرق موجبة لاختلاط الآخرين معهم عند مشاركتهم لهم في مجالسهم ومحافلهم، وحينما يصغى المباشرون لهم إلى سماع أصول مذهبهم وأحاديثهم مرة بعد مرة لا محالة يألفون مشربهم، وهذا هو عمل الدعاة، والأثر الذي يترتب على هذه الوضعية هو الأثر الذي توخته عرفاء دول الغرب في ترقية دين المسيح مع بذل أموال تحير العقول.
من جملة الأمور السياسية التي ألبستها رؤساء فرقة الشيعة لباس المذهب من عدة قرون وصارت مورثة جدا لجلب قلوبهم وقلوب غيرهم، هي أصول التمثيل باسم الشبيه والتعزية في مأتم الحسين، التمثيل أدخلته حكماء الهند في عباداتها لعدة أغراض خارجة عن موضوع بحثنا، الأوربيون بمقتضى السياسة ألبسوا التمثيل لباس التفرج، وأظهروا في محلات التفرج العمومية لأنظار العام والخاص أمورا سياسية مهمة لاستجلاب القلوب، وقليلا قليلا أصابوا هدفين بسهم واحد، تفريح الطبائع، وجلب قلوب العامة في الأمور السياسية.
فرقة الشيعة حصلت من هذه النكتة على فائدة تامة فألبست ذلك لباس المذهب، فيستنبط أن فرقة الشيعة أخذت هذا العمل من الهنود، وعلى كل حال فالتأثير الذي يلزم أن يحصل على قلوب العامة والخاصة في إقامة العزاء والشبيه قد حصل.
من جهة يذكرون في مجالس قراءة التعزية المتواصلة، وعلى المنابر المصائب التي وردت على رؤساء دينهم، والمظالم التي وردت على الحسين، ومع تلك الأحاديث المشوقة إلى البكاء على مصائب آل الرسول.
فتمثيل تلك المصائب للأنظار أيضا له تأثير عظيم ويجعل العام والخاص من هذه الفرقة راسخ العقيدة فوق التصور، وهذه النكات الدقيقة صارت سببا في أنه لم يسمع بأحد من هذه الفرقة من ابتداء ترقي مذهب الشيعة أنه ترك دين الإسلام أو دخل في فرقة إسلامية أخرى.
هذه الفرقة تعمل الشبيه بأقسام مختلفة، فتارة في مجالس مخصوصة ومقامات معينة، وحيث إنه في أمثال هذه المجالس المخصوصة والمقامات المعينة يكون اشتراك الفرق الأخرى معهم أقل، أوجدوا تمثيلا بوضع خاص، فعملوا الشبيه في الأزقة والأسواق، وداروا به بين جميع الفرق، وبهذا السبب تتأثر قلوب جميع الفرق منهم ومن غيرهم بذلك الأثر الذي يجب أن يحصل من التمثيل، ولم يزل هذا العمل شيئا فشيئا يورث توجه العام والخاص إليه، حتى أن بعض الفرق الإسلامية الأخرى وبعض الهنود قلدوا الشيعة فيه، واشتركوا معهم في ذلك.
وعمل الشبيه في الهند أكثر رواجا منه في جميع الممالك الإسلامية، كما أن سائر فرق الإسلام هناك أكثر اشتراكا مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد. ويظن أن أصول التمثيل وعمل الشبيه بين الشيعة قد جاءت من جهة سياسة السلاطين الصفوية الذين كانوا أول سلسلة استولت على السلطنة بقوة المذهب ورؤساء الشيعة الروحانيون شيئا فشيئا أيدوا هذا العمل وأجازوه.
ومن جملة الأمور التي صارت سببا في ترقي هذه الفرقة وشهرتها في كل مكان هو إرادة أنفسهم بالمرأى الحسن، بمعنى أن هذه الطائفة بواسطة مجالس المأتم، وعمل الشبيه، واللطم والدوران، وحمل الأعلام في مأتم الحسين، جلبت إليها قلوب باقي الفرق بالجاه والاعتبار والقوة والشوكة، لأنه من المعلوم أن كل جمعية وجماعة تجلب إليها الأنظار وتوجه إليها الخواطر إلى درجة ما.
مثلا لو كان في مدينة عشرة آلاف نفس متفرقين، وكان في محل ألف نفس مجتمعين، كانت شوكة الألف وعظمتهم في أنظار الخاص والعام أكثر من العشرة آلاف، مضافا إلى أنه إذا اجتمع ألف نفس انضم إليهم من غيرهم بقدرهم بعضهم للتفرج، وبعضهم للصداقة والرفاقة، وبعضهم لأغراض خاصة، وبهذا الانضمام تتضاعف قوة الألف وشوكتهم في الأنظار.