وقد أضر به العطش فبادرت إليه امرأة بلبن، فلما رآه تبسم، وأيقن بدنو أجله، وراح يقول بنبرات هادئة مطمئنة:
قال لي رسول الله (ص): آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن وتقتلك الفئة الباغية.
ولم يلبث قليلا حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وانطوت بموته أروع صفحة مشرقة من الايمان والجهاد، وارتفع ذلك العملاق الذي أضاء الحياة الفكرية باخلاصه واندفاعه نحو الحق.
وكان الامام أمير المؤمنين (ع) برحا لم يقر له قرار حينما برز عمار إلى ساحة الجهاد، فكان يقول: فتشوا لي عن ابن سمية، وانطلقت فصيلة من الجند تبحث عنه، فوجدوه قتيلا مضمخا بدم الشهادة فانبروا مسرعين إلى الامام فأخبروه بشهادته، فانهد ركته، وانهارت قواه، وسرت موجات من الألم القاسي في محياه، فقد غاب عنه الناصر والأخ، ومشى الامام لمصرعه كئيبا حزينا، وعيناه تفيضان دموعا، وسار معه قادة الجيش وقد أخذتهم المائقة حزنا على البطل العظيم، ولما انتهى إليه ألقى بنفسه عليه وجعل يوسعه تقبيلا، وقد انفجر بالبكاء، وجعل يؤبنه بحرارة قائلا:
" إن أمرا من المسلمين لم يعظم عليه قتل ابن ياسر وتدخل عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد.
- رحم الله عمارا يوم أسلم.
رحم الله عمارا يوم قتل.
رحم الله عمارا يوم يبعث حيا.
لقد رأيت عمارا وما يذكر من أصحاب رسول الله أربعة إلا كان رابعا، ولا خمسة إلا كان خامسا، وما كان أحد من قدماء أصحاب رسول الله يشك أن عمارا قد وجبت له الجنة في غير موطن، ولا اثنين