سبيل لولوج هذه الفيافي والقفار الكثيرة الوعورة والأخطار فاحتكروا تجارة البلاد السعيدة (اليمن) والشام وغيرهما، واستقلوا بتبادل سلعها، وقد كان من وراء تبادل تلك التجارة وانتشارها في مكة ما عاد على أهلها بالأرباح الطائلة. ولم يكن حب أبناء الأشراف والنبلاء وأهل الشرف فيهم للفروسية بأقل من حبهم للتجارة التي كانوا يمارسونها منذ نعومة أظفارهم (1).
كان عمرو بن العاص أحد أبناء هؤلاء الأشراف تاجرا في الجاهلية. والظاهر أنه كان يتجر ببضائع اليمن والحبشة إلى الشام وببضائع الشام إلى اليمن كالجلد من اليمن يتجر به في الحبشة.
والطيب من هذه والزبيب والتين ونحوه من الشام. وقد ذكر الكندي أن عمرو بن العاص كان يختلف بتجارته إلى مصر وهي الأدم والعطر (2) والظاهر من قول الكندي أن أنواع السلع التي كان يتجر فيها عمرو ويختلف إلى الشام والحبشة واليمن ومصر من أجلها كان أخصها الأدم والعطر. وقد عادت ممارسة التجارة على عمرو بأعظم الفوائد مادية كانت أو أدبية. فقد اكتسب شيئا كثيرا من أسفاره المتصلة واختلاطه بأقوام على جانب عظيم من المدنية والارتقاء إذ ذلك. فتولدت فيه المواهب النادرة، ونمت وأزهرت فتجلت مظاهرها في جميع أدواره وكل فعاله، مما كان له أعظم الأثر في مواقفه السياسية والحربية. وهذه الأسفار قد أكسبت عمرا شيئا من الدهاء غير قليل، وضرب به المثل واخترعت فيه الروايات. من ذلك ما رواه صاحب الأغاني قال:
بعد أن مشت قريش بعمارة بن الوليد المخزومي إلى أبي طالب خرج هو وعمرو بن العاص، وكان كلاهما تاجرا إلى النجاشي مشركين وشاعرين فاتكين وهما في جاهليتها. وكان عمارة معجبا