بكوا بكاء شديدا حتى علا بكاؤهم ونحيبهم، فقال لهم هرقل: ما يبكيكم؟ فقال هشام: هذه الصورة صورة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم وآله) كأنا نراه بين أيدينا بنعته وصفته، فقال هرقل: بدينكم إنها صورة نبيكم عليه السلام؟ فقال المسلمون: هذه صورة نبينا كأنا نراه حيا بين أظهرنا، ولكن من أين هذه الصورة أيها الرجل؟ فقال هرقل: إذا أخبركم أن آدم عليه السلام سأل ربه تبارك وتعالى أن يمن عليه بصفة أولاده من النبيين المرسلين خاصة، فأعطاه الله تبارك وتعالى ذلك وبعث إليه بصفاتهم في نمط من ديباج أخضر، فلم يزل ذلك النمط في تابوت آدم عليه السلام يعرضه على أولاده كل جمعة مرة، فلما توفي آدم عليه السلام صار التابوت إلى شيث ومن شيث إلى أنوش، ثم توارثه قوم بعد قوم حتى انتهى ذلك إلى ذي القرنين فاستخرج هذه الصورة من خزانة آدم عليه السلام، وتوارثها آباؤنا حتى صارت هذه الصورة إلينا، والله! لقد وددت أن نفسي تطيب بترك هذا الملك حتى أخرج معكم وأكون عبدا لأميركم إذ كنتم رأيتم هذا النبي وشاهدتموه، ولكن نفسي لا تطيب بترك ما أنا فيه من هذا الملك. والله! لقد خبرنا المسيح عيسى بن مريم في الإنجيل وأمرنا أن نؤمن بالنبي الأمي صاحب الجمل والمدرعة والهراوة والنعلين والعمامة الأنجل (١) العينين المقرون الحاجبين الصلت الجبين الواضح الخدين، ولكن يأبى لي النعمة والسرور إلا التمادي في الغرور.
قال: ثم أمر لهشام بن العاص وأصحابه بجوائز سنية، فأبوا أن يقبلوها منه، ثم خرجوا من عنده واستووا على رواحلهم وساروا حتى صاروا إلى أبي عبيدة بن الجراح فخبروه بما كان من أمر جبلة بن الأيهم وأمره وأمر هرقل ملك الروم، فقال أبو عبيدة: ﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم﴾ (2).
قال: ثم جعل هرقل يضم أطرافه ويقوي أصحابه ولا يألو في ذلك جهدا.
قال: وسار أبو عبيدة بالمسلمين حتى نزل بموضع يقال له: الجابية (3) من أرض دمشق في ثلاثين ألفا، وسارت إليه الروم في ثمانين ألف حتى نزلوا قريبا منه، وبلغ