نهاية الأفكار - آقا ضياء العراقي - ج ١-٢ - الصفحة ٢٠٣
الفعل لخروج فعل غيره عن قدرته واختياره فلا يكون عدلا لفعله في مقام التكليف ليحتمل كونه مكلفا تخييرا بأحد الامرين وبما ان المكلف يعلم أنه مخاطب بالفعل المزبور في حال ترك غيره له ويشك بوجوبه عليه في حال اتيان الغير به يصح له الرجوع إلى البراءة في مقام الشك المذكور ولا مجال لجريان أصالة الاشتغال بتوهم ان اشتغال الذمة بالتكليف متيقن وانما يشك بسقوطه بفعل الغير والأصل يقتضي عدم كونه مسقطا وذلك لأنه يكون هو بنفسه مجرى لأصالة البراءة فيكون هذا الأصل حاكما على أصل عدم كون فعل الغير مسقطا.
(ومن هنا) يظهر لك الجواب عن توهم بعض الأعاظم (قده) في المقام لصحة جريان أصالة الاشتغال في محل الكلام بتقريب ان المكلف يعلم باشتغال ذمته بالتكليف في حال ترك غيره لمتعلق ذلك التكليف وبعد فعل الغير له يشك بسقوط التكليف عنه وحينئذ يصح جريان أصالة الاشتغال أو استصحاب بقاء التكليف بذلك الفعل (وذلك) لما قد بينا ان الشك في المقام يكون في طور التكليف هل هو تام أو ناقص ومعه لا مجال للاستصحاب إذ ما هو مقطوع من الأول هو وجوب الاتيان في ظرف عدم صدور الفعل من غيره واما لزوم الاتيان في ظرف صدوره من الغير فيكون مشكوكا من الأول فلا تتم فيه أركان الاستصحاب وحينئذ يصح ان يرجع فيه إلى البراءة ولا مجال للاشتغال ومن هنا يتضح انه لا مجال لتوهم جريان الاستصحاب في القدر الجامع بين الوجوب التام والناقص لحكومة البراءة عليه كما هو الشأن في جميع موارد الشك في الأقل والأكثر.
الموضع الثاني في أن اطلاق الخطاب هل يقتضي صدور الفعل عن اختيار أو لا يقتضي ذلك وغاية ما يمكن ان يقال هو ان التكليف لما كان مشروطا بالقدرة والاختيار عقلا امتنع الاطلاق في كل من الهيئة والمادة اما الهيئة فلان مفادها على الفرض مشروط بالاختيار عقلا واما المادة فلسراية تقييد الهيئة إليها ومعه لم يبق مجال لتوهم الاطلاق فضلا عن صحة التمسك به إلا أنه يمكن النظر في ذلك بما أشرنا إليه فيما سبق من أنه قد تكون للكلام دلالات وظهورات متعددة فإذا سقط بعضها عن الحجية فلا موجب لسقوط الآخر بل القاعدة تقضي ببقائه على الحجية وما نحن فيه من هذا القبيل فان اطلاق الهيئة ببعض ظهوره وان كان مقيدا عقلا بالاختيار فظهورها في الاطلاق وان سقط عن الحجية للقرينة العقلية إلا ان ظهورها في كون المادة ذات مصلحة ملزمة لا موجب لسقوطه عن الحجية وعليه يكشف اطلاقها عن اطلاق المصلحة القائمة فيها.
(ولكن قد يستشكل) في ذلك بان اطلاق المادة وان كان يقضي بحصول الغرض من الامر وان صدرت من المكلف بلا اختيار ولازم ذلك سقوط التكليف حين صدورها من المكلف بلا اختيار لحصول الغرض الداعي إليه ولكن ذلك ينافي مقتضي اطلاق الهيئة إذ بعد تقييد الهيئة بالقدرة ولو بحكم العقل يكون مفادها لزوم الاتيان بالمادة في حال الاختيار ومقتضي اطلاقها لزوم الاتيان بالمادة في حال الاختيار وان صدرت من المكلف في حال بلا اختيار وعليه يقع التهافت بين اطلاقي الكلام الواحد (ويمكن الجواب) عن ذلك بان الخطاب مع قطع النظر عن تقييده عقلا بحال الاختيار مطلق بالإضافة إلى حالتي الاختيار والاضطرار وبعد تقيده عقلا بحال الاختيار يسقط ظهوره في الاطلاق المزبور عن الحجية ولكن لا ينعقد للمقيد ظهور في الاطلاق الأحوالي بالإضافة إلى الاتيان ببعض افراد غير المقيد كما هو الشأن في التقييد بالمنفصل فان التقييد بالمنفصل لا يوجب إلا سقوط ظهور المطلق في الاطلاق عن الحجية ولا ينعقد معه ظهور للمقيد في التقييد بخلاف التقييد بالمتصل فإنه ينعقد معه للمقيد ظهور في الاطلاق الأحوالي بالإضافة إلى الاتيان بغير افراده وعدمه وبما ان التقيد بحال الاختيار في المقام انما حصل بدليل منفصل وهو دليل العقل لم ينعقد للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق بالإضافة إلى الاتيان بالفرد الاضطراري.
ومن هنا يظهر الجواب عن اشكال آخر وهو ان مدلول الهيئة محصور بصورة الاختيار لان الداعي إليه هو البعث واحداث الداعي في نفس المأمور وذلك يختص بصورة صدور الفعل عن اختيار المأمور فيزاحم حينئذ مقتضى اطلاق المادة بل يمنع عن استفادة الاطلاق في ناحية المادة، وملخص الجواب ان اختصاص الهيئة بما ذكر بحكم العقل الذي هو من التقييد المنفصل فلا ينافي ظهور الهيئة في تحقق مبادي الطلب من الإرادة والمصلحة مطلقا وان قيدت حجية الهيئة في فعلية الإرادة بصورة صدور الفعل عن اختيار وعليه يبقى ظهور المادة في الاطلاق بلا معارض فيصح الاخذ به ويكون دليلا على سقوط التكليف حين الاتيان بالفرد الاضطراري.
وبهذا يتضح لك عدم تمامية ما ذهب إليه بعض الأعاظم في المقام حيث أفاد ان التكليف لابد ان يتعلق بالفعل الاختياري فلو كان الفعل غير الاختياري مسقطا له لكان التكليف مشروطا بقاء بعدم وجود الفعل غير الاختياري وحيث يشك بكونه مسقطا يشك بكون التكليف مطلقا أو مشروطا ومقتضي أصالة الاطلاق هو عدم الاشتراط ومع عدم الاطلاق يكون المرجع استصحاب بقاء التكليف هذا حاصل تحقيقه في محل الكلام ولا يخفى ما فيه، لما عرفت آنفا من أن الخطاب مطلق بالإضافة إلى الفعل الاختياري والاضطراري وتقييده بالدليل المنفصل العقلي لا يوجب الا سقوط ظهوره في الاطلاق عن الحجية ولا ينعقد معه للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق الأحوالي بالإضافة إلى الاتيان بالفرد الاضطراري، وعدمه ليجعل دليلا على وجوب الاتيان بالفعل الاختياري بعد الاتيان بالفرد الاضطراري، هذا كله فيما لو كان هناك اطلاق، وأما إذا لم يكن في المقام اطلاق فالمرجع عند الشك في بقاء التكليف بعد الاتيان بالفرد الاضطراري هي البراءة لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين ولا شبهة في أن المرجع في الشك المزبور هي البراءة ومعه لا مجال للرجوع إلى استصحاب التكليف لحكومة أصالة البراءة عليه.
الموضع الثالث في أن اطلاق الخطاب هل يقتضي كفاية الامتثال بالفرد المحرم أو لا يقتضي ذلك والتحقيق يقتضي بالأول مطلقا سواء كان بين متعلق الامر ومتعلق النهى عموم من وجه أم عموم مطلق وسواء قلنا بجواز الاجتماع أم بامتناعه وذلك لان اطلاق الخطاب يكشف عن وجود المصلحة الملزمة في متعلقة مطلقا ولو كان بعض افراده محرما غاية الامر ان ملاك النهى لغلبته على ملاك الامر يوجب فعلية النهى عن الفرد الذي اجتمعا فيه وتنتفي فعلية الامر وذلك لا يستلزم انتفاء ملاك الامر ومعه يحصل بالفرد المحرم الغرض الداعي إلى أصل الخطاب فيسقط بانتفاء الموضوع لا بالامتثال، وعند عدم الاطلاق يكون المرجع حين الشك البراءة كما تقدم في الموضع الثاني، ومما ذكرنا في هذا الموضوع يظهر لك ما في كلام بعض الأعاظم من النظر وقد أشرنا إليه فيما سبق فراجع.