آخر وهو - وإن كان غير صحيح - نقض لعلتكم، وهدم لاعتمادكم، لأنكم توجبون بيان فوائد الخطاب ومراد المخاطب، لأنه يتعلق بحسن الخطاب. وإذا أجزتم تأخير بيان بعض فوائده، نقصتم اعتلالكم على كل حال وعدنا إلى أنكم قد أجزتم حسن ما هو نظير للمجمل الذي أخبرنا حسنه، لأنا لم نجز إلا تأخير بيان بعض فوائد الخطاب، ونراكم أبدا تذكرون في كتبكم أن قبح تأخير البيان لم يكن لشئ يتعلق بإزاحة علة المكلف في الفعل وإنما هو راجع إلى وقوع الخطاب على وجه يقتضي القبح، وهذا ينقض قولكم الآن أنه لا يحتاج في فعل ما كلف إلى معرفة غاية المصلحة، ويحتاج في الفعل إلى العلم بصفته، لأن هذه منكم مراعاة لما به يتمكن من إيقاع الفعل.
ويجب أن يعلم أن فقد القدرة أو الآلة التي لا يقع الفعل إلا بها أقوى وأشد تأثيرا في تعذر الفعل من فقد العلم بصفته، وأنتم تجيزون خطاب من لا يقدر على الفعل ولا يتمكن منه في حال الخطاب إذا كان من يقدر في حال الحاجة، فأجيزوا تأخير بيان صفة الفعل في حال الخطاب، ولا حاجة به في هذه الحال إلى العلم بصفته، كما لا حاجة به إلى القدرة عليه والتمكن بآلات وغيرها منه ثم.
ثم إنكم ليس تخلون من أن توجبوا بيان صفة الفعل المأمور به في حال الخطاب لأمر يتعلق بإزاحة العلة في الفعل، أو لأمر يرجع إلى حسن الخطاب، وأن فوائده ومراد المخاطب به إذا لم يعلم تفصيلا في وقت الخطاب قبح:
فإن كان الأول، لزم عليه أن يكون في حال الخطاب قادرا متمكنا، وليس توجبون ذلك.
وإن كان الثاني، فغاية الفعل من مراد المخاطب ومقصوده من الخطاب، ومع ذلك فلم يبينها في حال الخطاب، وإذا جاز أن لا يبين بعض المقصود ولا يكون الخطاب قبيحا، جاز في المجمل مثل ذلك بعينه.
ومما يمكن أن يستدل به على جواز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب ويورد على المخالف على سبيل المعارضة والإلزام: أنه لا خلاف بيننا وبينهم في أنه قد يجوز أن يخاطب في المخاطب بالمجمل وإن لم يقرنه بالبيان، بل يحيله في معرفة البيان على