وقال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب، ومرة في السواحل والرباط، ومرة في البيوت، وقد جاء في الخبر: " إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك ". ولم يخص موضعا من موضع. وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك، إن كنت بين أظهرهم. وقال ابن المبارك في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت. وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ". وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نعم صوامع المؤمنين بيوتهم " من مراسل الحسن وغيره. وقال عقبة بن عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما النجاة يا رسول الله؟ فقال: " يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وآبك على خطيئتك ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ". خرجه البخاري. وذكر على بن سعد عن الحسن بن واقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لامتي العزبة والعزلة والترهب في رؤوس الجبال ". وذكر أيضا على بن سعد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر (1) إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة ". قالوا:
يا رسول الله، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج؟ قال: " إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران ". قالوا:
وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: " يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها ".