قلت: أحوال الناس في هذا الباب تختلف، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في بداية أمره، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية، فقال: " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف (1) ". ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل، وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم.
ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وإذا هم، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن. وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال:
جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل إنه لا بد لك من الناس، ولا بد لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعا، أعمى بصيرا، سكوتا نطوقا.
وقد قيل: إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب، مثل الاعتكاف في المساجد، ولزوم السواحل للرباط والذكر، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس. وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم - والله أعلم - لان ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها، فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه، كما ذكرنا، والله الموفق وبه العصمة. وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يعجب (2) ربك من راعى غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلى فيقول الله عز وجل انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف منى قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة ". خرجه النسائي.
الثالثة - قوله تعالى: (وهئ لنا من أمرنا رشدا) لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجئوا إلى الله تعالى فقالوا: " ربنا آتنا من لدنك رحمة " أي مغفر ورزقا. (وهئ لنا من أمرنا رشدا) توفيقا للرشاد. وقال ابن عباس: مخرجا من الغار في سلامة.
وقيل صوابا. ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حزبه (4) أمر فزع إلى الصلاة.