بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٦ - الصفحة ١٠٣
وقد أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هو دجى وهم يحسبون أنى فيه، وشدوه على البعير وانطلقوا.
فتلففت بجلبابي واضطجعت ونمت في مكاني إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي وقد كان تخلف عن العسكر، فلما رآني قرب البعير فقال: اركبي واستأخر عنى وانطلق سريعا " يطلب الناس حتى أتينا الجيش وقد نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فلما رأوني يقود بي صفوان قال أهل الإفك ما قالوا، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج.
فلما علمت بذلك استأذنت رسول الله أن آتي أبوي، فأذن لي فجئت وقلت لأمي:
يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت يا بنية هوني عليك قلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر، الا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله.
ولما تحدث الناس بهذا دعا رسول الله علي بن أبي طالبوأسامة بن زيد فاستشارهما فأما أسامة فأثنى على خيرا وأما على فإنه قال: ان النساء لكثير وانك لقادر على أن تستخلف، سل الجارية فإنها ستصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله بريرة ليسألها، فقام إليها علي بن أبي طالب فضربها ضربا " شديدا "، يقول: اصدقي رسول الله، فقالت: والله ما أعلم الا خيرا الا أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله.
فاستعذر رسول الله يومئذ في خطبة قصيرة خطبها فقال: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من الخزرج أمرت ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا " ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر والله ما تقتله ولا تقدر على قتله، فتثاور الحيان: الأوس والخزرج، فسكتهم رسول الله صلى الله عليه وآله.
ثم دخل رسول الله على وعندي أبواي، فجلس وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
يا عائشة! قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقى الله وان كنت قد قارفت سوءا " فتوبي إلى الله، فقلت: والله لا أتوب والله يعلم انى لبريئة، فما برح رسول الله صلى الله عليه وآله حتى نزل عليه الوحي ببراءتي.
ثم إن حسانا هجا صفوان بن المعطل، فاعترضه صفوان وضربه بذباب السيف فلما جاء به إلى رسول الله استوهبه من حسان فوهبه له وأعطاه عوضا منها بئر حاء وسيرين أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان، ولقد سئل عن ابن المعطل فوجدوه رجلا حصورا " ما يأتي النساء، وفى لفظ أنه لما بلغه خبر الإفك قال: سبحان الله والله ما كشفت كنف أنثى قط، فقتل بعد ذلك شهيدا " في سبيل الله.
هذا ملخص القصة، وقد كان الغالب عليها طنطنة القصاصين، فأعرضنا عن ذكرها بتفصيلها، لان العارف بسبك الآثار المختلقة قليل، وإنما ذكرنا منها ما يمكننا النقد عليها ويصح تمسك العموم بها، فنقول:
١ - راوية هذا الإفك نفس عائشة، وقد تفرد بنقله، ولم يرد في سرد غزوة المريسيع ذكر من ذلك، وكل من ذكر القصة أفرد لها فصلا على حدة بعد ذكره غزوة المريسيع برواية عائشة.
٢ - ان رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكن ليخرج معه نساءه في الغزوات، ولم يرد ذكر من ذلك في غزوة من غزواته حتى في غزوة بنى المصطلق الا من عائشة في حديثه هذا.
٣ - غزا رسول الله بنى المصطلق مغيرا " يسرع السير إليهم فهجم عليهم، لما بلغه أنهم يجمعون له، فلم يكن يناسب له مع هذا أن يخرج معه عائشة ولا غيرها.
٤ - كان رسول الله صلى الله عليه وآله نزل بالجيش فبات به بعض الليل ثم ارتحل بالليل، ولم تكن عائشة تحتاج بالليل أن تبعد عن الجيش لقضاء حاجتها، فكيف لم تسمع همهمة الركبان وقعقعة السلاح وصهيل الأفراس حين قفلوا وأبعدوا، وكيف لم تعد حتى تدرك القافلة، وكيف غلبتها عينها فنامت والحال هذه.
٥ - هل كانت عائشة في هذه الغزوة وحدها، لم تكن معه امرأة أخرى من خادم و غيره؟ كيف يكون ذلك؟ ولو كان معها غيرها كيف لم يخبر الرحالين أن عائشة راحت لتفقد عقدها، والهودج خالية عنها.
٦ - أشار على على رسول الله أن يسئل الجارية - وهي بريرة مولاة عائشة - فان كانت هي عندها في سفرتها هذه فكيف لم تخبر الناس أن الهودج خالية، وإذا لم نكن عندها فكيف أشار على ليسألها رسول الله، ثم ضربها ضربا " شديدا " ليصدق ولم سألها رسول الله عن ذلك وهي لم تكن في السفرة.
٧ - تكلمت عائشة مع أمها أم رومان، وقد رووا أنها توفيت سنة أربع وقيل سنة خمس، لكنهم قالوا بوفاتها آخر سنة ست تحكما ليتوافق مع خبر الإفك، وهو كما ترى.
٨ - سعد بن معاذاستشهد بعد غزوة بني قريظة سنة خمس فكيف تثاور مع سعد بن عبادة بعد غزوة بنى المصطلق في سنة ست؟ حكموا بأن الغزوة كانت قبل الخندق ليتوافق مع خبر الإفك وهو تحكم.
٩ - سيرين أخت مارية القبطية أهديت إلى النبي صلى الله عليه وآله في سنة سبع وقيل سنة ثمان، فوهبها النبي صلى الله عليه وآله لحسان - ترى نص ذلك في كتب التراجم: ترجمة صفوان، وسيرين ومارية وعبد الرحمن بن حسان فكيف تقول عائشة: وهبها رسول الله لحسان في هذه القصة وهي حينئذ بالإسكندرية عند مالكها المقوقس.
١٠ - زعمت أن صفوان كان حصورا " - والحصور إن كان بمعنى حبس النفس عن الشهوات، فهو وصف اختياري، لا ينفع تبرءة لها، مع أنه لا يصح التعبير بأنهم وجدوه كذلك، وإن كان وصفا لخلقته، فقد روى في حديث صححه ابن حجر عند ترجمة صفوان أنه جاءت امرأة صفوان بن المعطل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالت يا رسول الله ان زوجي صفوان يضربني الحديث، قال ابن حجر، وقد أورد هذا الاشكال قديما " البخاري ومال إلى تضعيف الحديث. فترى أنهم يضعفون الحديث الصحيح ليصح لهم حديث الإفك، ان هذا لشئ عجاب.
١١ - لقد صح ان رسول الله صلى الله عليه وآله بعدما قال عبد الله بن أبي ما قال، رحل من المريسيع ولم ينزل بهم الا في اليوم الثاني حين آذتهم الشمس، فوقعوا نياما "، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، ثم راح بعد يقظتهم حتى سلك الحجاز ونزل بقعاء ثم رحل مسرعا حتى قدم المدينة، فلم ينزل ليلا أو بعض ليل حتى يصح قولها في رواحها لقضاء الحاجة.
١٢ - كيف تصدى القرآنالعزيز ردا " على ابن أبي في قوله: " ليخرجن الأعز منها الأذل، فأنزل سورة المنافقون وذكر فيها مقاله وخبث نيته ولم يذكر قصة الإفك وظرفها سورة المنافقون، ثم ذكرها في سورة النور، وقد نزل في سنة تسع بعد ثلاث سنين.
١٣ - تقول آية الإفك " والذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات " فوصفها أولا بالغفلة عن هذا الإفك، وهو يناسب مارية القبطية حيث كانت خارجة عن المدينة نازلة في مشربتها لا يختلف عندها الا رسول الله صلى الله عليه وآله ونسيبها المأبور، واما عائشة فقد كانت قهرمانة الإفك وحيث بقيت مع صفوان وحدها، ولم يدركا الجيش الا في نحر الظهيرة فلتذهب نفسها كل مذهب، وكيف كانت غافلة عن ذلك وهي تقول: " فارتعج العسكر، لما رأوا أن طلع الرجل يقود بي ".
١٤ - وصفها آية الإفك بالايمان، والحال أن القرآنالعزيز يعرض بعدم ايمان عائشة في قوله " عسى ربه ان طلقكن أن يبدله أزواجا " خيرا " منكن مسلمات مؤمنات " الآية وهكذا يؤذن بتظاهرها على النبي صلى الله عليه وآله في قوله " ان تتوبا إلى الله فقد صفت قلوبكما وان تظاهرا عليه فان الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير " ثم يعرض بخيانتها في قوله: " ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا فخانتاهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين ".