بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٦ - الصفحة ٢٨١
* {107 باب} * * (عمل الصور وابقائها واللعب بها) * الآيات: السبأ: يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل (1).
(١) السبأ: ١٢، قال الطبرسي: يعنى بالتماثيل صورا من نحاس وشبه وزجاج ورخام، كانت الجن تعملها، ثم اختلفوا فقال بعضهم: كانت صورا للحيوانات، وقال آخرون: كانوا يعملون صور السباع والبهائم على كرسيه ليكون أهيب له.
فذكروا أنهم صوروا أسدين أسفل كرسيه ونسرين فوق عمودي كرسيه، فكان إذا أراد أن يصعد الكرسي، بسط الأسدان ذراعيهما، وإذا علا على الكرسي نشر النسران أجنحتهما، فضللاه من الشمس.
قال الحسن: ولم تكن يومئذ التصاوير محرمة وهي محظورة في شريعة نبينا صلى الله عليه وآله فان قال: لعن الله المصورين، ويجوز أن يكره ذلك في زمن دون زمن، وقد بين الله سبحانه أن المسيح كان يصور بأمر الله من الطين كهيئة الطير.
وقال ابن عباس: كانوا يعملون صور الأنبياء والعباد في المساجد ليقتدى بهم، و روى عن الصادق (ع) أنه قال: والله ما هي تماثيل النساء والرجال، ولكنه تماثيل الشجر وما أشبهه.
أقول: ظاهر لفظ التماثيل: هو تصوير الصور من الانسان والحيوان ذات أبعاد ثلاثة - وتسميه العامة اليوم مجسمة - ولم يذكر في القرآن الكريم الا مرتين: ثانيهما قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (ع) " إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون - إلى أن قال: وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا " " (الأنبياء - ٥٢ - ٥٨).
ولا ريب أن التماثيل التي كانوا يعبدونها - وعبر عنها ثانيا " بالأصنام وجعلها جذاذا " - ليس الا المجسمة، ولا معنى لان يكون التماثيل في آية بمعنى تصوير المجسمة، وفى الأخرى بمعنى نقش الصور أو مجسمة الأشجار.
مع أن الأول وهو أن يكون المراد بالتماثيل نقش الصور، لا يناسب قوله: " يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات " فان التماثيل عد من معمولاتهم في مقابل المحاريب والجفان والقدور، فإذا كانت التماثيل هي النقوش في تلك المعمولات لم يحسن عدها على حدة.
وأما المعنى الثاني وهو أن يكون المراد بالتماثيل مجسمة الأشجار، كما روى في أخبار ضعاف، فهو غير معهود ولا مطلوب، فان تصوير الأشجار مجسمة بيد الجن و الشيطان، ونصبها في الجنان والبساتين، عمل لغو بعد ما يقدر كل أحد على عمل الجنان الحقيقي بإذن الله تعالى وإنما كان المطلوب لسليمان وقد سمى حشمة الله بناء مالا يقدر عليه أحد غيره، لكون الجن والشياطين أعوانه وعملته.
قال الله عز وجل " وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس فهم يوزعون * حتى إذا أتوا على واد النمل إلى أن قال - فتبسم ضاحكا " من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلى والدي وأن أعمل صالحا " ترضاه " لما رأى حشمته و شوكته التي أعطاها الله ولم يعطها أحدا " غيره، خلد في باله أن يبنى بيتا لله ذا حشمة وشوكة لا يقدر على ايجاده غيره، شكرا " لما وهبه من الملك الذي لا ينبغي لاحد من بعده.
ولذلك سأل الله عز وجل أن يوزعه في الدنيا ويكف عنه الموت والمرض وكل ما يشغله عن بناء البيت حتى يفرغ وينجز ما جعله على نفسه، فشرع في بناء البيت المقدس:
فجمع الشياطين وأرسل فرقة في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادته وفرقة يستخرجون الذهب واليواقيت من معادنها، وفرقة يقلعون الجواهر والأحجار من أماكنها، وفرقة يأتون بالدرر من البحار، ثم أمرهم بنحت الأحجار أساطين وألواحا من معالجة تلك الجواهر واللآلئ بأقدار هندسية كالمثمن والمسدس وغير ذل، وبنى المسجد الأعظم بألوان الرخام وعمده بأساطين المها وسقفه بألواح الجواهر، وفضض سقوفه و حيطانه باللآلئ واليواقيت والدرر.
ومما عملت الشياطين في تلك الأبنية المحاريب وهي جمع المحراب بمعنى الغرفة العالية كالقصر، ولا يسمى الغرفة محرابا الا إذا كان في الطبقة العالية: الثانية أو الثالثة وأكثر، إذا قدروا عليه، فالمراد بالمحاريب الغرف فوق الغرف، ومنه يظهر أن البيت المقدس وهو نفس المسجد، كان ذا طبقات عالية بعضها فوق بعض ولم تكن العامة تقدر على ذلك، ولا شاهدوه.
ومما علمت الشياطين في تلك الأبنية تحت الرخام وسائر الأحجار الكريمة بصورة الحيوانات ذوات الأرواح وتمثيلها بصورة مهيبة، واستعمالها في قواعد البيت، كأن ترى أسطوانة على صورة انسان عجيب الخلقة، واضعا " قدميه على ظهر أسد معمولة من الرخام كأنه قاعدة البيت، ورافعا على رأسه قاعدة من قواعد الغرف العالية، وهكذا.
ومما عملت الشياطين في حوائج ذلك البيت المقدس نحت الجفان وهي من عظمتها كالجواب وقدور كبيرة لا يقدر على حملها أحد، راسيات.
فقال عز وجل حينذاك " اعملوا آل داود " في بناء البيت وتمامه وأنجزوا ما جعلتم على أنفسكم " شكرا " " لما وهبتكم من الملك الذي لا ينبغي لاحد من بعدكم، فقد أوزعتكم وأمهلتكم لبناء هذا البيت كما سألتموني، " وقليل من عبادي الشكور ".
" فلما قضينا عليه الموت " ولم يتم بعد تزيين البيت، قبضناه متكئا " على منسأته قائما كأنه حي ينظر إلى عملة الشياطين والجن، ولما تم البناء والتزيين، وحق القول في ايزاعه وامهالها " ما دلهم على موته الا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ".
فالآيات الشريفة بنفسها تنص على أن الجن كانوا يعملون التماثيل في بناء البيت المقدس، ولا معنى لاستعمالها في البيت الا كما ذكرناه، وهو المعهود من بناء السلاطين بعده، والروايات الواردة في ذلك، تؤيد هذا المعنى أيضا ".
وأما أنه كيف جاز عمل الصور؟
فالمسلم من الآيات الشريفة التي تبحث عن ذلك، أن التماثيل إذا نصبت للعبادة وعكف الناس على عبادتها وخلقوا لذلك افكا، فهي صنم ووثن، كما عرفت في قوله تعالى " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " وقوله بعده " تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا " " فان كانت التماثيل منصوبة للعبادة، يجب كسرها متابعة لإبراهيم خليل الله وان كانت أعيانها مملوكة للغير، منصوبة في بيت لهم، وإنما يذكره الله عز وجل ويطرى على فعله ذلك لأنه مرضى الله عز وجل مطلوب له من العباد، فإذا وجب كسرها - وان كانت أعيانها مملوكة للغير - فالمنع من نحتها وعملها أيضا واجب ضروري.
وما روى عن النبي صلى الله عليه وآله كان يأمر سراياه بأن يكسروا التماثيل ويمحو نقوشها من المعابد، وجهه أن التماثيل الموجودة عند العرب لم تكن منصوبة الا للعبادة، فكان الواجب كسرها لمن ظفر عليها.
وأما نحتها وتصويرها لا للعبادة، كما فعل ذلك سليمان بن داود عليه السلام فجعلها في خدمة بيت الله المقدس، ومعرض الهوان والذل والعبودية لله عز وجل بعدما كانت تعمل عند الوثنيين للعبادة ويألهون إليها في حوائجهم، فقد كان أمرا مستحسنا مرضيا لله عز وجل والألم يقبله الله عز وجل شكرا لما أنعم عليه من الملك، ولم يأمر به في قوله: " اعملوا آل داود شكرا " ولم يمدحه بقوله: " وقليل من عبادي الشكور ".
فمن فعل كما فعل إبراهيم الخليل بالتماثيل المنصوبة للعبادة، ففعله ممدوح:
ومن فعل فعل سليمان حشمة الله فعمل مثل آلهة الوثنيين، وجعلها ذليلا مهانا " داخل الحيطان وعلى رؤوسهم ثقل قباب بيت الله، فهو مستحسن.
ولكن في دين النبي محمد صلى الله عليه وآله لا مساغ لبناء بيت كذلك، لما نهى عن تذهيب المساجد وتزويقها، بل نهى عن السقوف المعمولة بالطين، بل ورفع حيطانها أزيد من القامة كما بنى صلى الله عليه وآله مسجده بالمدينة وقال: عرش كعريش موسى، فلا وجه في دين النبي صلى الله عليه وآله وسنته لعمل الصور، وكان عملها مكروها، وتزويق حيطان البيوت بها خلودا " إلى الأرض وزخرفها وزبرجها، وأما نصبها في الأسواق وداخل البيوت، فهو يزيد في الكراهة، لأنه تشبه بعبدة الأصنام ولا حول ولا قوة الا بالله.