فقال: كان والله بعيد المدى (1) شديد القوى يقول: فصلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير العبرة (2) طويل الفكرة يقلب كفيه ويخاطب نفسه ويناجي ربه، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جش (3) كان والله فينا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه، وكنا مع دنوه منا وقربنا منه لا نكلمه لهيبته ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فان تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين ويحب المساكين لا يطمع القوى في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله.
وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله (4) وغارت نجومه وهو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم (5) ويبكى بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا يا دنيا أبى تعرضت أم إلى تشوقت؟ هيهات هيهات (لا حان حينك) غرى غيري لا حاجة لي فيك قد طلقتك ثلاثا لا رجعة (لي فيك) فيها، فعمرك قصير وخطرك يسير وأملك حقير آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق وعظيم المورد فوكفت دموع معاوية (لعنة الله) على لحيته فنشفها بكمه واختنق القوم بالبكاء، ثم قال: كان والله أبو الحسن كك، فكيف كان حبك إياه؟ قال: كحب أم موسى