والدليل على أن المراد من الآية الكريمة اليمين على أمر في المستقبل أنه علق الكفارة فيها بالحلف والحنث عرفنا ذلك بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا حلفتم وحنثتم والحنث لا يتصور الا في اليمين على أمر في المستقبل وكذا قوله تعالى واحفظوا ايمانكم وحفظ اليمين إنما يتصور في المستقبل لان ذلك تحقيق البر والوفاء بالعهد وانجاز الوعد وهذا لا يتصور في الماضي والحال والله عز وجل الموفق (وأما) يمين اللغو فلا كفارة فيها بالتوبة ولا بالمال بلا خلاف بيننا وبين الشافعي لان قوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم أدخل كلمة النفي على المؤاخذة فيدل على انتفاء المؤاخذة فيها بالاثم والكفارة جميعا وإنما اختلفا في تفسيرها واختلف قول من فسرها باليمين على المعاصي في وجوب الكفارة على ما بينا ثم الحالف باللغو إنما لا يؤاخذ في اليمين بالله تعالى فأما اليمين بغير الله تعالى من الطلاق والعتاق فإنه يؤاخذ به حتى يقع الطلاق والعتاق وإن كان ظاهر الآية الكريمة في نفى المؤاخذة عاما عرفنا ذلك بالخبر والنظر أما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم ثلاث جدهن جد وهزلهن جد وذكر الطلاق والعتاق واللاغي لا يعدو هذين فدل ان اللغو غير داخل في اليمين بالطلاق والعتاق وأما النظر فهو ان الطلاق والعتاق مما يقع معلقا ومنجزا ومتى علق بشرط كان يمينا فأعظم ما في اللغو انه يمنع انعقاد اليمين وارتباط الجزاء بالشرط فيبقى مجرد ذكر صيغة الطلاق والعتاق من غير شرط فيعمل في إفادة موجبهما بخلاف اليمين بالله تعالى فان هناك إذا لغا المحلوف عليه يبقى مجرد قوله والله فلا يجب به شئ فثبت بما ذكرنا ان المراد بالآية اللغو في اليمين بالله تعالى لا في اليمين بغير الله تعالى من الطلاق والعتاق وسائر الا جزية (وأما) حكم اليمين المعقودة وهي اليمين على المستقبل فاليمين على المستقبل لا يخلو اما أن يكون على فعل واجب وأما أن يكون على ترك المندوب وأما أن يكون على ترك المباح أو فعله فإن كان على فعل واجب بأن قال والله لأصلين صلاة الظهر اليوم أو لأصومن رمضان فإنه يجب عليه الوفاء به ولا يجوز له الامتناع عنه لقوله صلى الله عليه وسلم من حلف أن يطيع الله فليطعه ولو امتنع يأثم ويحنث ويلزمه الكفارة وإن كان على ترك الواجب أو على فعل معصية بأن قال والله لا أصلى صلاة الفرض أو لا أصوم رمضان أو قال والله لأشربن الخمر أو لأزنين أو لأقتلن فلانا أو لا أكلم والدي ونحو ذلك فإنه يجب عليه للحال الكفارة بالتوبة والاستغفار ثم يجب عليه أن يحنث نفسه ويكون بالمال لان عقد هذه اليمين معصية فيجب تكفيرها بالتوبة والاستغفار في الحال كسائر الجنايات التي ليس فيها كفارة معهودة وعلى هذا يحمل ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ثم ليأت الذي هو خير أي عليه أن يحنث نفسه لقوله صلى الله عليه وسلم من حلف أن يعصى الله تعالى فلا يعصه وترك المعصية بتحنيث نفسه فيها فيحنث به ويكفر بالمال وهذا قول عامة العلماء وقال الشعبي لا تجب الكفارة المعهودة في اليمين على المعاصي وان حنث نفسه فيها لما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا حلف أحدكم على يمين فرأى ما هو خير منها فليأته فإنه لا كفارة بها ولان الكفارة شرعت لرفع الذنب والحنث في هذه اليمين ليس بذنب لأنه واجب فلا تجب الكفارة لرفع الذنب ولا ذنب (ولنا) قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إلى قوله ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم من غير فصل بين اليمين على المعصية وغيرها والحديث المعروف وهو ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه فقد روى عنه خلافه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف أحدكم بيمين ثم رأى خيرا مما حلف عليه فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير فوقع التعارض بين حديثيه فبقي الحديث المعروف لنا بلا تعارض ولان الأمة أجمعت على أن الكفارة لا يمتنع وجوبها لعذر في الحانث بل يتعلق بمطلق الحنث سواء كان الحانث ساهيا أو خاطئا أو نائما أو مغمى عليه أو مجنونا فلا يمتنع وجوبها لأجل المعصية ولان الكفارة إنما وجبت في اليمين على المباحات اما لان الحنث فيما يقع خلفا في الوعد ونقضا للعهد لان الحالف وعد ان يفعل وعهد الله على ذلك فإذا حنث فقد صار بالحنث مخلفا في الوعد ناقضا للعهد
(١٧)