قلت: ولأصحابنا وجهان (أحدهما) لا يجوز التوكيل فيه لأنه اخبار بحق فلم يجز التوكيل فيه كالشهادة.
(والثاني) يجوز، وهو الصحيح، واليه ذهب المصنف رحمه الله تعالى، ولا يشترط في صحة التوكيل رضى الخصم، لأنه توكيل في حقه فلا يعتبر فيه رضى من عليه الحق كالتوكيل في قبض الديون، وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد رضي الله عنهم من أن وكالة الحاضر صحيحة، وان لم يرض الخصم بشرط أن لا يكون الوكيل عدوا للخصم. وقال أبو حنيفة لا تصح وكالة الحاضر الا برضى الخصم الا أن يكون الموكل مريضا أو مسافرا على ثلاثة أيام فيجوز حينئذ وأما التوكيل في الجنايات فينقسم إلى قسمين:
(أحدهما) التوكيل في اثبات الجناية فهذا غير جائز، لان الحق لله تعالى وقد أمرنا فيه بالدرء لقوله صلى الله عليه وسلم " ادرءوا الحدود بالشبهات " وأمرنا بالتوصل إلى اسقاطه وقد يتوصل بالتوكيل إلى ايجابه فلم يجز.
(القسم الثاني) وهو استيفاء حدود الله تعالى، كالقصاص وأرش الجناية وحد القذف وكل ما تعلق به حق للعباد، وكذلك في إقامة الحد بعد ثبوت الجناية لان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنيس اذهب إلى امرأة فلان فان اعترفت فارجمها فعلق الجزاء على شرط الاعتراف، وكذلك يمكن التوكيل في حضرة الموكل، وهذه العبارة التي ساقها المصنف في قوله: فإنه يجوز التوكيل في استيفائها بحضرة الموكل، لان الحاجة تدعو إلى التوكيل فيه، لأنه قد يكون له حد أو قصاص الخ عبارته. تدل هذه العبارة على صحة ما اتسم به عصرنا هذا من تخصيص فريق من الدارسين لأحكام الشرع وفقه الفروع يتوكلون عن أصحاب الخصومات في عمل الاجراءات التي يترافعون بها في ساحة المحاكم ومجالس القضاء ويسمونهم بالمحامين.
(فرع) قال الشافعي في الجنايات: ولو وكل فتنحى به فعفا الموكل فقتله الوكيل بعد العفو وقبل العلم بالعفو، فعلى من يكون الضمان؟ على القاتل الذي لم يعلم بعفو موكله؟ أم على الموكل الذي لم يحتط فوقع القتل؟