يقدمون إليه واحدا واحدا، وكل من تقدم منهم قطع رأسه. كل ذلك والشافعي يدع ربه بدعائه المشهور عنه " اللهم يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير " يكرره مرارا.
ولما جاء دوره حملوه إلى الخليفة وهو مثقل بالحديد، فرمى من بحضرة الخليفة بأبصارهم إليه.
فقال الشافعي: السلام عليك يا أمير المؤمنين وبركاته ولم يقل " رحمة الله ".
فقال الرشيد: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، بدأت بسنة لم تؤمر بإقامتها، ورددنا عليك فريضة قامت بذاتها، ومن العجب أن تتكلم في مجلسي بغير أمري.
فقال الشافعي: إن الله تعالى قال في كتابه العزيز (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) وهو الذي إذا وعد وفى، فقد مكنك في أرضه وأمنني بعد خوفي حيت رددت على السلاة بقولك " وعليك رحمة الله " فقد شملتني رحمة الله بفضلك يا أمير المؤمنين.
فقال الرشيد: وما عذرك من بعد ما ظهر أن صاحبك (يريد عبد الله بن الحسن) طغى علينا وبغى واتبعه الأرذلون وكنت أنت الرئيس عليهم.
فقال الشافعي: أما وقد استنطقتني يا أمير المؤمنين فسأتكلم بالعدل والانصاف، لكن الكلام مع ثقل الحديد صعب، فإن جدت علي بفكه عن قدمي جثيت على ركبتي كسيرة آبائي عند آبائك وأفصحت عن نفسي، وإن كانت الأخرى فيدك العليا ويدي السفلى والله غني حميد فالتفت الرشيد إلى غلامه " سراج " وقال له: حل عنه فأخذ سراج ما في قدميه من الحديد فجثى الشافعي على ركبتيه وقال (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) حاشا لله أن أكون ذلك الرجل، لقد أفك المبلغ فيما بلغك به، إن لي حرمة الاسلام وذمة النسب، وكفى بهما وسيلة، وأنت أحق من أخذ بأدب كتاب الله، أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذاب عن دينه، المحامي عن ملته.
فتهلل وجه الرشيد ثم قال: ليفرج روعك فإنا نراعي حق قرابتك وعلمك ثم أمره بالقعود فقعد.
وقال الرشيد: كيف علمك؟ يا شافعي بكتاب الله عز وجل؟ فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به.
فقال الشافعي: عن أي كتاب من كتب الله تعالى تسألني يا أمير المؤمنين؟ فإن الله قد أنزل كتبا كثيرة.
قال الرشيد: أحسنت. لكن إنما سألت عن كتاب الله تعالى المنزل على ابن عمي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال الشافعي: إن علوم القرآن كثيرة، فهل تسألني عن محكمه أو متشابهه أو عن تقديمه أو تأخيره أو عن ناسخه أو منسوخه، وصار يعرض عليه علوم القرآن ما أعجب به هارون الرشيد والحاضرون وأدهشهم.
فغير الرشيد سؤاله إلى العلوم المتنوعة من فلك وطب وفراسة وما إليها، فكان الشافعي يجيب على كل سؤال ما يسر الخليفة.
ثم قال الرشيد: عظني يا شافعي، فأخذ الشافعي يعظ الرشيد وعظا تصعدت له القلوب حتى اشتد بكاء الرشيد، فهاج الحاضرون فنظر إليهم الشافعي غضبا واستمر في وعظه. وقد حصلت