ينهج هذا السبيل وأول رحلاته كانت إلى المدينة لما سمع بالامام مالك، فسمع الموطأ وحفظه ولقي من الامام مالك إكراما وإجلالا حتى إنه أجلسه في مجلسه وكلفه أن يقرأ الموطأ على الناس ويمليه عليهم، فأقام هكذا ضيفا عند الامام مالك ثمانية أشهر.
رحلته الأولى إلى بغداد: كان من عادة المصريين ان يتوجهوا إلى المدينة بعد أداء فريضة الحج للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولسماع الموطأ على الامام مالك. قال الشافعي:
فأحليت الموطأ عليهم حفظا، منهم عبد الله بن عبد الحكم وأشهب بن القاسم (قال الربيع: وأحسب أنه ذكر الليث بن سعد) ثم قدم بعد ذلك أهل العراق المسجد للصلاة فيه وزائرين نبيهم.
قال الشافعي: فرأيت بين القبر والمنبر فتى جميل الوجه، نظيف الثياب، حسن الصلاة، فتوسمت فيه خيرا، فسألته عن اسمه، فأخبرني، وسألته عن بلده فقال لي: العراق.
قال الشافعي: فقلت، أي العراق؟ فقال: في الكوفة. فقلت: من العالم بها والمتكلم في نص كتاب الله عز وجل والمفتي بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لي: محمد بن الحسن، وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة.
قال الشافعي: فقلت: ومتى عزمتم تظعنون؟ فقال لي: غداة غد عند انفجار الفجر.
فعدت إلى مالك فقلت له: قد خرجت من مكة في طلب العلم بغير استئذان العجوز، فأعود إليها أو أرحل في طلب العلم.؟ فقال لي: العلم فائدة يرجع منها إلى عائدة، ألم تعلم بأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب؟
قال الشافعي: فلما أزمعت على السفر زودني مالك بصاع من أقط وصاع من شعير وصاع من تمر وسقاء ماء. فلما كان السحر وانفجر الفجر حمل بعض الإداوة وسار معي مشيعا إلى البقيع فصاح بعلو صوته: من معه كرى راحلة إلى الكوفة؟ فأقبلت عليه فقلت له: لم تكتري ولا شئ معك ولا شئ معي؟ فقال لي: لما انصرفت البارحة عنك بعد صلاة العشاء الآخرة إذ قرع علي قارع الباب فخرجت إليه فأصبت عبد الرحمن بن القاسم المصري، فسألني قبول هديته فقبلتها. فدفع إلي صرة فيها مائة مثقال، وقد أتيتك بنصفها وجعلت النصف لعيالي.
وبعد أربعة وعشرين يوما وصل ركب الحاج العراقي إلى الكوفة، وهناك اجتمع بالامامين، أبي يوسف، ومحمد، وحصل بين الشافعي وبينهما محادثات ومناظرات علمية، لا يتسع المقام لذكر تفاصيلها.
وقد أكرم الإمام محمد مثوى الشافعي، وعرف قدره، وأكرم ضيافته.
أقام الشافعي مدة في الكوفة ضيفا على محمد بن الحسن نسخ في خلالها كثيرا من الكتب، وتلقى العلم عليه وكتب عنه حمل بعير من الكتب.
ثم بدا للشافعي أن يطوف في بلاد فارس وما حولها من بلاد الأعاجم وأن يطوف البلاد العراقية فدخل بغداد وغيرها، ثم سافر إلى ديار ربيعة ومضر ومنها رحل إلى شمال العراق حتى وصل إلى جنوب بلاد الروم (الأناضول) وعرج على " حران " وأقام بها زمنا، ثم سافر إلى فلسطين وأقام ب (الرملة) واستغرقت هذه الرحلة سنتين بدأها سنة 172 ه وانتهت سنة 174 ه ازداد فيها علما ووقف على أمور