بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين. وصلوات الله وسلامه على سيد الخلق وإمام الحق، قائد الغر المحجلين، وشفيع المذنبين بإذن من الله يوم يقوم الناس لرب العالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته البررة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وبذلوا النفس والنفيس في سبيل نصرة هذا الدين المبين.
أما بعد فلا يخفى على ذوي العقول والبصائر النيرة مكانة الفقه بالنسبة لسائر العلوم فهو الذي أشاد الله بشرفه في كتابه حيث قال.
" فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " لذلك دأب العلماء وتسابقوا في القيام بالرحلات العلمية ليفوزوا بالخير الذي سمعوا البشارة به من النبي صلى الله عليه وسلم حين تحدث عن مكانة الفقه وقيمته بقوله " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " فأكثروا التنقل في البلاد للقاء العلماء والاخذ عنهم، ومن أبرز الأئمة الذين أكثروا من التطواف والرحلات في مختلف الأقطار الإمام الشافعي رضي الله عنه. فقام برحلته العلمية بادئ بدء إلى الامام مالك في المدينة فلما أترع عقله ولبه من علومه رحل إلى العراق فطوف هناك في المدن ولقى الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وأبا يوسف القاضي وغيرهما ثم رحل إلى البلاد الفارسية فالتقى بعلمائها ثم طاف شمال العراق فاخترق ساحل الفرات وبعض المدن سورية حتى ألقى عصا التسيار بمدينة " الرملة " كل هذا ولم يجاوز العشرين سنة من عمره فما فتئ بعد مدة وجيزة من إقامته في الرملة أن اعتزم الرحلة ثانيا إلى الامام مالك وبقي معه في المدينة إلى أن مات ثم توجه إلى اليمن فاكتسب هناك علم الفراسة وازداد تفقها ثم اعتقل بتهمة التشيع للعلويين ضد العباسيين فكانت نتيجة التحقيق أن ظهرت براءته فأطلقه الخليفة هارون الرشيد وعرف له فضله ونبوغه في شتى العلوم لا سيما فقه الكتاب والسنة ونفوذ النظر فيهما مع دقة الاستنباط وقوة العارضة ونور البصيرة والابداع في إقامة الحجة، فلم يقو أحد على مناظرته، والذي أوصل الشافعي إلى هذه الدرجة تلك الخطوات المحكمة التي انتهجها في حياته العلمية، ذلك أنه تأدب بأدب البادية ووقف على علوم اللغة العربية فصيحها وغريبها وحفظ أشعار الغرب وأيامهم فأصبح حجة في اللغة وخصوصا أشعار الهذليين.
ثم إنه تلقى علوم أهل الحضر واجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث فتصرف في ذلك حتى أصل الأصول وقعد القواعد، فعلا ذكره واشتهر أمره، حتى صار أعجوبة الدنيا في عصره، وأخذ بعد ذلك يؤلف المؤلفات ويودع حصيلته العلمية في كتب خاصة:
ومن أجمع تلك المؤلفات التي وصلت إلينا كتاب " الام " الذي نقدم له هذه المقدمة المتواضعة، فسيرى القارئ فيه علما غزيرا، يتعلم منه كيف يكفر، وكيف يحتج وكيف يناظر، وكيف يتعلم حرية الرأي فرحم الله الشافعي حيث رسم للناس الطريق السوي للاجتهاد ونبذ التقليد، فملا طباق الأرض علما.