للشافعي في هذه المحنة محاورات ومناظرات علمية مع صاحبي أبي حنيفة، وهما أبو يوسف ومحمد بن الحسن أعرضنا عن ذكر تفصيلها لأن المقام لا يتسع لها وقد تكفلت بها الكتب المؤلفة في مناقب الشافعي.
عودته إلى مكة: بعد أن نجا الشافعي من تلك المحنة التي سبق ذكرها ونال إعجاب الخليفة والتقدير العظيم والاجلال البالغ رأى أن يعود إلى مكة فسافر ووصل إليها سنة 180 ه وضرب خباءه خارج مكة في ظاهرها فاستقبله أهل مكة استقبالا عظيما، فقسم بينهم ما جاء به من العراق من ذهب وفضة، عملا بوصية أمه له كلما جاء مكة فما دخل مكة إلا وقد وزع المال، فدخلها فارغا كما خرج منها فارغا.
وأقام في مكة سبع عشرة سنة يعلم الناس وينشر مذهبه بين الحجاج، وهم بدورهم ينقلونه إلى بلادهم رحلته الثالثة إلى العراق: وفي خلال هذه السنوات مات الإمام أبو يوسف في سنة 182 ه ومات بعده الإمام محمد بن الحسن سنة 188 ه ومات هارون الرشيد سنة 193 ه وبويع المأمون بالخلافة واشتهر حبه للعلويين وعطفه عليهم فرأى الشافعي أن يعود إلى بغداد وأقام فيها شهرا واحدا وكان يلقي دروسه في جامعها الغربي الذي كان حافلا بالحلقات العلمية التي تربو على عشرين حلقة، فأصبحت ثلاثة فقط وانضم الباقون إلى حلقة الإمام الشافعي.
وصادف أن ولى المأمون على مصرد، العباس بن موسى (أحد رجال بني العباس) فرأى الشافعي أن يرافقه في السفر من بغداد إلى مصر فخرج أهل بغداد لوداعه وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل فأمسك الشافعي بيد ابن حنبل وقال:
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر * ومن دونها أرض المهامه والقفر ووالله لا أدري أللعز والغنى * أساق إليها أم أساق إلى القبر؟
وكأن الشافعي أحسن بأنه سيموت ويقبر في مصر فبكى وبكى لفراقه أحمد بن حنبل والمودعون.
وعاد ابن حنبل وهو يقول لأهل العراق: لقد كان الفقه قفلا ففتحه الله بالشافعي، ورافق الشافعي في رحلته هذه إلى مصر كثير من تلامذته العلماء وفي مقدمتهم، الربيع بن سليمان المرادي، وعبد الله بن الزبير الحميدي وغيرهما.
وفي 28 شوال سنة 198 دخل الشافعي مصر مع العباس بن موسى عامل مصر وواليها من قبل المأمون، فأراد العباس بن موسى أن ينزله في داره ضيفا فاعتذر الشافعي ونزل عند أخواله من الأزد اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة المنورة حيث نزل عند أخواله من بني النجار وفي الصباح تواكبت العلماء وتوافدت على الشافعي وفي مقدمتهم عبد الله بن الحكم، وكان من كبار علماء مصر وأعيانها وممن أملى عليهم الشافعي الموطأ في المدينة، فرآه خاضبا لحيته بالحناء عملا بالسنة طويل القامة، جهوري الصوت، كلامه حجة في اللغة، عليه دلائل الشجاعة والفراسة، فوضع بين يديه أربعة آلاف دينار.