العباد وعرف طبائع سكان تلك البلاد التي زارها وأخلاقهم وعاداتهم، ولغاتهم كما تعرف على كثير ممن أملى عليهم الموطأ وهو في المدينة فكانوا خير معين له في هذه السياحة.
رحلته الثانية إلى المدينة: وبينما هو في " الرملة " ذات يوم إذ أقبل ركب المدينة من الحجاز فسألهم الشافعي عن مالك فقالوا: إنه بخير وقد اتسعت أرزاقه فاشتاق الشافعي لرؤية الامام مالك في حال غناه كما رآه في حال فقره من المال، فركب راحلته ووصل المدينة بعد سبعة وعشرين يوما. فوافق دخوله ساعة العصر 174 ه وقصد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وصلى العصر فرأى كرسيا من الحديد عليه مخدة وحول الكرسي نحو أربعمائة دفتر، وبينما هو كذلك إذ رأى مالكا داخلا وقد فاح عطره في المسجد وحوله جماعة يحملون ذيله حتى جلس على الكرسي، ثم طرح مسألة إثر مسألة في جراح العمد على الموجودين فلم يجب أحد. فضاق صدر الشافعي ونظر إلى رجل كان بجانبه وهمس إليه في أذنه بالجواب، فقال الرجل: الجواب كذا وكذا كما سمعه من الشافعي، ولما تكررت إجابة هذا الرجل بالصواب في كل مسألة قال له مالك: من أين لك هذا العلم؟ فقال الرجل: إن بجانبي شابا يقول لي: الجواب كذا وكذا، فاستدعى الامام مالك الشاب فإذا هو الشافعي، فضمنه مالك إلى صدره ونزل عن كرسيه وقال له: أتمم أنت هذا الباب.
وبعد أن أتم الشافعي الدرس أخذه الامام مالك إلى بيته، ولم يمض على عودة الشافعي إلى المدينة زمن طويل حتى جاءت الاخبار من مصر بوفاة الامام الليث بن سعد في نصف شعبان سنة 175 ه فحزن لوفاته مالك والشافعي.
أقام الشافعي بعد ذلك في المدينة المنورة أربع سنوات وأشهرا ملحوظا بعين الامام مالك إلى أن توفي الامام مالك في شهر ربيع الأول سنة 197 ه ودفن بالبقيع وبقي الشافعي في المدينة ولا معين له إلا الله تعالى، وكان عمره عامئذ 29 سنة تقريبا.
رحلته إلى اليمن: وصادف بعد وفاة الامام مالك أن جاء والي اليمن إلى المدينة فكلمه جماعة من قريش، فأخذه إلى صنعاء اليمن وقلده عملا مستقلا أحسن الشافعي إدارته ونال ثناء الناس عليه وأحبه الوالي وتعلم علم الفراسة من أهل اليمن الذين كانوا يجيدون فقهها حتى تفوق فيه.
محنته وأسبابها: وهي الرحلة الثانية إلى العراق لما لمع نجمه في اليمن نظرا لعلو كعبه في مختلف العلوم وما أحرزه من المكانة العالية عند الوالي حسده الحاسدون وحقد عليه الحاقدون، فوشوا به عند الخليفة هارون الرشيد في بغداد واتهموه بأنه رئيس حزب العلويين وأنه يدعو إلى عبد الله بن المحض الحسن المثنى بن الحسين السبط.
فأرسل هارون الرشيد أحد قواده إلى اليمن، فبعث له ذلك القائد بكتاب يخوفه ما العلويين ويذكر له فيه الشافعي ويقول عنه: إنه يعمل بلسانه ما لا يقدر المقاتل عليه بحسامه وسناه، وإن أردت يا أمير المؤمنين ان تبقى الحجاز عليك فاحملهم إليك.
فبعث الرشيد إلى والي اليمن يأمره بأن يحمل العلويين إلى بغداد ومعهم الشافعي مكبلا بالحديد.
فاعتقلهم الوالي ومعهم الشافعي، ووضع في رجليه الحديد تنفيذا لأمر الخليفة، وأرسلهم إلى بغداد، فدخلوها في غسق الليل وأحضروهم بين يدي هارون الرشيد وكان جالسا وراء ستارة وكانوا