بأمر وراءه، لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف فكيف ترفعه، فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة وهو التفهيم الإلهي غير الطبيعي المسمى بالنبوة والوحي، وهذه الحجة مؤلفة من مقدمات مصرح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدم، وكل واحدة من هذه المقدمات تجربية بينتها التجربة للإنسان تاريخ حياته واجتماعاته المتنوعة التي ظهرت وانقرضت في طي القرون المتراكمة الماضية إلى أقدم أعصار الحياة الإنسانية التي يذكرها التاريخ. فلا الإنسان انصرف في حين من أحيان حياته عن حكم الاستخدام، ولا استخدامه لم يؤد إلى الاجتماع وقضى بحياة فردية، ولا اجتماعه المكون خلا عن الاختلاف، ولا الاختلاف ارتفع بغير قوانين اجتماعية، ولا أن فطرته وعقله الذي يعده عقلا سليما قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف وتقلع مادة الفساد.
وناهيك في ذلك ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية وما هو نصب عينيك من انحطاط الأخلاق وفساد عالم الإنسانية والحروب المهلكة للحرث والنسل والمقاتل المبيدة للملايين بعد الملايين من الناس، وسلطان التحكم ونفوذ الاستعباد في نفوس البشر وأعراضهم وأموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية والرقي والثقافة والعلم، فما ظنك بالقرون الخالية أعصار الجهل والظلمة.
وأما أن الصنع والإيجاد يسوق كل موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كل موجود بحسب التجربة والبحث، وكذا كون الخلقة والتكوين إذا اقتضى أثرا لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلم تثبته التجربة والبحث، وأما أن التعليم والتربية الدينيين الصادرين من مصدر النبوة والوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف والفساد، فأمر يصدقه البحث والتجربة معا، أما البحث فلأن الدين يدعو إلى حقائق المعارف وفواضل الأخلاق ومحاسن الأفعال، فصلاح العالم الإنساني مفروض فيه، وأما التجربة فالإسلام أثبت ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين، وأثبت ذلك بتربية أفراد من الإنسان صلحت نفوسهم