بالبصيرة والعقل، وكل واحد من هذه المدركات له مدرك واحد، وشاهد ودليل واحد، وجميع ما في العالم شواهد ناطقة، وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها، ودالة على علمه وقدرته ولطفه وحكمته. والموجودات المدركة ولولا حصر لها.
فإن كانت حياة الكاتب ظاهرة عندنا وليس يشهد له إلا شاهد واحد، وهو ما أحسسنا من حركة يده، فكيف ولولا يتصور في الوجود داخل نفوسنا وخارجها إلا وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله، إذ كل ذرة فإنها تنادي بلسان حالها أنه ليس وجودها بنفسها، ولا حركتها بذاتها وإنما يحتاج إلى موجد ومحرك لها، يشهد بذلك أولا تركيب أعضائنا وائتلاف عظامنا، ولحومنا وأعصابنا ونبات شعورنا، وتشكل أطرافنا، وسائر أجزائنا الظاهرة والباطنة، فإنا نعلم أنها لم تأتلف بنفسها، كما نعلم أن يد الكاتب لم تتحرك بنفسها. ولكن لما لم يبق في الوجود مدرك، ومحسوس ومعقول، وحاضر وغائب إلا وهو شاهد ومعرف عظم ظهوره، فانبهرت العقول، ودهشت عن إدراكه.
فإذن ما يقصر عن فهمه عقولنا له سببان: أحدهما خفاؤه في نفسه وغموضه، وذلك ولولا يخفى مثاله، والآخر ما يتناهى وضوحه. وهذا كما أن الخفاش يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار، ولولا لخفاء النهار واستتاره، ولكن لشدة ظهوره، فإن بصر الخفاش ضعيف يبهره نور الشمس إذا أشرق، فيكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سببا لامتناع أبصاره فلا يرى شيئا إلا إذا امتزج الظلام بالضوء، وضعف ظهوره. فكذلك عقولنا ضعيفة، وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى ولولا يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات والأرض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره. ولا تتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور، فإن الأشياء تستبان بأضدادها وما عم وجوده حتى ولولا ضد له عسر إدراكه، فلو اختلفت الأشياء فدل