ففكروا في هذا الحديث، فما أبين دلائله وأوضح حجته وتأكيده وما أعجب قوته عند النظر فيه من جميع أسبابه ومعانيه.
[وفكروا أيضا في] قول عمر - له عندما سمع [من النبي صلى الله عليه وآله وسلم] هذا الحديث - بخ بخ [لك] يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
فهذا حديث يؤكد بعضه بعضا ويشهد بشهادة واحدة، وينفي تحريف الشاكين والمقصرين، ويوجب قول أهل العلم واليقين.
وقد قال قوم: إن معنى الحديث إنما هو في الولاية، فمعنى قوله (من كنت مولاه فعلي مولاه) من كنت وليه فعلي وليه. ويدل على ذلك قول الله (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وإن الكافرين لا مولى لهم) (١١ / محمد: ٤٧) فإنما أراد الله بهذه الولاية، فخص علي بن أبي طالب بهذه الكلمة [لأنه أراد منها الرئاسة والأمارة، ولو كان يريد منهما غير الرئاسة والأمارة من مثل المحبة والنصرة] و [كان] المؤمنون جميعا في معنى الولاية [بهذا التفسير] داخلون، لأنهم لله ولرسوله موالون [لم يكن وجه لتخصيصه عليا بها] كما خصت الأنصار باسم النصرة والمؤمنون جميعا في معنى النصرة [لله] ولرسوله داخلون.
[قال أبو جعفر الإسكافي]: وهذا أيضا خطأ من التأويل بدلالة أول الحديث لأن قوله (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وبكل مؤمن ومؤمنة؟) [وهذا] يدل [على] أنه لم يرد بذلك الولاية، لأن هذا المعنى لا يجوز أن يكون لهم، لأن الوليين كل واحد منهما مولى صاحبه.
وقوله (ألست أولى بكل مؤمن ومؤمنة؟ وأولى بالمؤمنين من أنفسهم)؟
إيجاب أن للنبي عليه السلام عليهم في ذلك ما ليس لهم في التقدمة، وكذلك علي مولاهم أنه أولى بهم جهة التقدمة، لأن آخر الكلام على أوله مردود، فمن أراد أن يدخل في آخر الحديث معنى يزيل ما قلنا [ه] نفاه أول الحديث، ومن أراد أن يدخل في أوله معنى غير ما وصفنا [ه] نفاه آخر الحديث، فالحديث يشهد بعضه لبعض بما قلنا، ويوجب الحجة الواضحة بما إليه ذهبنا.
فإن قال قائل: فإذا كنتم قد أبطلتم من معنى الحديث ولاية الدين والولاء والعتق فليس لما ذهبتم إليه معنى.
قلنا لهم: قد أوضحنا لكم معنى ثالثا لو فهمتم، لأن أول الحديث فيه ذكر كل مؤمن ومؤمنة، فيعلم أنه لم يرد بذلك زيد بن حارثة إلا بدخوله في اسم الإيمان وما في آخره من ذكر العداوة والولاية.
ولم يرد بقوله (ألست أولى بكل مؤمن ومؤمنة) الولاية، لأن هذه منزلة النبي صلى الله عليه وسلم ليست لأحد من المؤمنين، والولاية لهم هم لها موصوفون فتلك منزلة علي بن أبي طالب.
فإن قال قائل: وبما استحق علي بن أبي طالب هذه المنزلة؟
قلنا له: إن قولكم (بما استحق علي بن أبي طالب هذه المنزلة) بعد ما أوقفناكم وعرفتم أن النبي عليه السلام أنزله هذه المنزلة وأبانه بهذه الفضيلة تهمة وسوء ظن بالنبي عليه السلام، لأن الذي فعل [به] النبي عليه السلام [ذلك] قمن بذلك لم يفعله [به] إلا بالاستحقاق، ولأن النبي عليه السلام لم يكن بالذي يتقدم بين يدي الله، فبين علي بن أبي طالب هذه البينونة ويشهره هذه الشهرة إلا بأمر من الله، فهذا من قولكم تهمة، فإن أقمتم عليه بعد البينة كفرتم.
فإن قالوا: فدلونا على قوله (من كنت مولاه) يحتمل ما قلتم من التقدمة والإبانة في اللغة.
قلنا: ذلك ما لا يستنكر في كلامهم وتعاملهم، قد يقول الرجل للرجل إذا أراد تقديمه وتفضيله على نفسه: فلان مولاي، يريد بذلك أنه سيدي والمتقدم علي والبائن مني.
والمولى قد يكون في اللغة على طريق الولاية وعلى طريق الولاء في العتق وعلى طريق السؤدد والإبانة في الفضل، واحتمل [اللفظ] هذه الوجوه الثلاثة، فبطل الوجهان من الحديث وثبت الثالث، وهو ما قلنا.
على أنا قد بينا استحقاق علي بهذه المنزلة من النبي عليه السلام بما قد ذكرنا من مناقبه وفضائله، فله على جميع المؤمنين التقدمة في السؤدد، والفضل بماله عليهم من النعمة والمنة والشرف، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم مولى المؤمنين جميعا بالسؤدد، لأن به تخلصوا من الضلال ودخلوا في نعمة الاسلام، حتى استنقذهم بدعائه وأمره وقيامه وصبره في ساعات الخوف والضيق من شفا الحفرة ومعاطب الهلكة.
ولعلي الفضل عليهم بذبه عنهم بسيفه وقيامه بالاصطلاء بحروب عدوهم منة ونعمة استحق بها عليهم السؤدد والتقدم، لأنه قوى بذلك عزائمهم، وأزال الشكوك بفعله عنهم وثبت يقينهم، وحامى عن أنفسهم وأموالهم في مواقف مشهورة قد ذكرنا بعضها ثم حفظه لما جاء به النبي عليه السلام من الدين والسبق وعنايته بذلك ينبه عاقلهم ويعلم جاهلهم ويقيم الحجة على معاندهم، وسنذكر فضله عليهم في العلم في موضعه.
وقال العلامة أبو الخير محمد بن محمد بن محمد الجزري المقرئ المتوفى سنة ٨٣٣ في (أسمى المناقب) ص 22 ط بيروت بعد نقل حديث (من كنت مولاه فعلي مولاه) ما لفظه:
هذا حديث حسن من هذا الوجه صحيح من وجوه كثيرة، تواتر عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وهو متواتر أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه الجم الغفير عن الجم الغفير، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممن لا اطلاع له في هذا العلم، فقد ورد مرفوعا عن أبي بكر الصديقوعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العواموالعباس بن عبد المطلبوزيد بن أرقموالبراء بن عازب وبريدة بن الحصيب وأبي هريرةوأبي سعيد الخدريوجابر بن عبد الله وعبد الله ابن العباس وحبشي بن جنادةوعبد الله بن مسعودوعمران بن حصين وعبد الله بن عمر وعمار بن ياسروأبي ذر الغفاريوسلمان الفارسيوأسعد بن زرارة وخزيمة بن ثابت وأبي أيوب الأنصاريوسهل بن حنيفوحذيفة بن اليمانوسمرة بن جندبوزيد بن ثابتوأنس بن مالك وغيرهم من الصحابة وصح عن جماعه منهم ممن يحصل القطع بخبرهم.
وثبت أيضا أن هذا القول كان منه صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم، وذلك في خطبة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم في حقه ذلك اليوم، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة إحدى عشرة لما رجع صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع.
وقال أيضا المؤلف المذكور في كتابه (أسنى المطالب) ص 48 مثله، إلا أن فيه (ويثبت أيضا).
أقول: لفظة (إحدى) زائدة، والصواب السنة العاشرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلمحج بالناس في السنة العاشرة من الهجرة النبوية.
* 1) كذا في المصدر.