وإذا ثبت هذا لم يجز حمل لفظة (المولى) في هذا الحديث على مالك الرق لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مالكا لرق علي عليه السلام حقيقة.
ولا على المولى المعتق، لأنه لم يكن معتقا لعلي ولا علب المعتق لأنه عليه السلام كان حرا، ولا على الناصر، لأنه عليه السلام كان ينصر من ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخذل من يخذله. ولا على ابن العم، لأنه كان ابن عمه. ولا على الحليف، لأن الحلف يكون بين الغرماء للتعاضد والتناصر وهذا المعنى موجود فيه ولا على المتولي لضمان الجريرة، لما قلنا أنه انتسخ ذلك. ولا على الجار، لأنه يكون لغوا من الكلام، وحوشي منصبه الكريم من ذلك. ولا على السيد المطاع، لأنه كان مطيعا له يقيه بنفسه ويجاهد بين يديه، والمراد من الحديث الطاعة المحضة المخصوصة، فتعين الوجه العاشر، وهو الأولى، ومعناه من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به.
وقد صرح بهذا المعنى الحافظ أبو الفرج يحيى بن السعيد الثقفي الأصبهاني في كتابه المسمى بمرج البحرين، فإنه روى الحديث بإسناده إلى مشايخه وقال فيه: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد علي عليه السلام فقال: من كنت وليه وأولى به من نفسه فعلي وليه، فعلم أن جميع المعاني راجعة إلى الوجه العاشر.
ودل عليه أيضا قوله عليه السلام: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهذا نص صريح في إثبات إمامته وقبول طاعته، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: وأدر الحق معه حيثما دار وكيف ما دار، فيه دليل على أنه ما جرى خلاف بين علي عليه السلام وبين أحد من الصحابة إلا والحق مع علي عليه السلام، وهذا بإجماع الأمة. ألا ترى أن العلماء إنما استنبطوا أحكام البغاة من وقعة الجمل وصفين.
وقد أكثرت الشعراء في يوم غدير خم، فقال حسان بن ثابت:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم فأسمع بالرسول مناديا وقال: فمن مولاكم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا ألهك مولانا وأنت ولينا * ومالك منا في الولاية عاصيا فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعه ينشد هذه الأبيات قال له: يا حسان لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا أو نافحت عنا بلسانك.
وقال قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وأنشدها بين يدي علي عليه السلام بصفين:
قلت لما بغى العدو علينا * حسبنا ربنا ونعم الوكيل وعلي إمامنا وإمام * لسوانا به أتى التنزيل يوم قال النبي من كنت مولاه * فهذا مولاه خطب جليل وأن ما قاله النبي على الأمة * حتم ما فيه قال وقيل وقال الكميت:
نفى عن عينك الأرق الهجوعا * وهما تمتري عنه الدموعا لدى الرحمن يشفع بالمثاني * فكان له أبو حسن شفيعا ويم الدوح دوح غدير خم * أبان له الولاية لو أطيعا ولكن الرجال تبايعوها * فلم أر مثلها خطرا منيعا ولهذه الأبيات قصة عجيبة، حدثنا بها شيخنا عمرو بن الصافي الموصلي رحمه الله تعالى قال: أنشد بعضهم هذه الأبيات وبات مفكرا، فرأى عليا عليه السلام في المنام فقال له: أعد علي أبيات الكميت، فأنشده إياها حتى بلغ إلى قوله (خطرا منيعا) فأنشده علي عليه السلام بيتا آخر من قوله زيادة فيها:
فلم أر مثل ذاك اليوم يوما * ولم أر مثله حقا أضيعا فانتبه الرجل مذعورا.
وقال السيد الحميري:
يا بايع الدين بدنياه * ليس بهذا أمر الله من أين أبغضت علي الرضى * وأحمد قد كان يرضاه من الذي أحمد من بينهم * يوم غدير الخم ناداه أقامه من بين أصحابه * وهم حواليه فسماه هذا علي بن أبي طالب * مولى لمن قد كنت مولاه فوال من والاه يا ذا العلا * وعاد من قد كان عاداه وقال بديع الزمان أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمداني:
يا دار منتجع الرسالة * وبيت مختلف الملائك يا بن الفواطم والعواتك * والترايك والأرايك أنا حائك إن لم أكن * مولى ولائك وابن حائك وقال العلامة أبو جعفر الإسكافي محمد بن عبد الله المعتزلي المتوفى سنة ٢٤٠ في كتابة القيم (المعيار والموازنة) ص 210 ط بيروت قال:
ثم قوله [صلى الله عليه وآله وسلم] له في غدير خم (من كنت مولاه فعلي مولاه) [يكون] إبانة له منهم وتقريبا له من نفسه، ليعلموا أنه لا منزلة أقرب إلى النبي صلى الله عليه من منزلته.
فإن قال قائل: إنما قال ذلك النبي عليه السلام في ولاء النعمة، ومعنى الحديث في زيد بن حارثة، لأنهما قد كانت بينهما مشاجرة فادعى علي بن أبي طالب ولاء زيد بن حارثة وأنكر ذلك زيد، فبلغ ذلك النبي عليه السلام فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، [فيكون ذلك إذا] في ولاء العتق.
قلنا: ليس لما ذهبتم إليه معنى يصح، لأن أول الحديث وآخره يبطل ما ذكرتم لأنه ذكر في أول الحديث [إنه صلى الله عليه وآله خطب الناس] فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ و [من] كل مؤمن ومؤمنة؟ قالوا: اللهم بلى. فقال:
من كنت مولاه فعلي مولاه.
فلا يكون من البيان في نفي ما قلتم أوضح من هذا، لأنه قد نص على المؤمنين جميعا بقوله، ودل على إبانة علي من الكل بمولويته على كل مؤمن ومؤمنة، ثم أقامه في التقديم عليهم مقامه، وأعلمهم أن تلك لعلي فضيلة عليهم كما كانت له صلى الله عليه وسلم فضيلة، تأكيدا وبيانا لما أراد من قيام الحجة ونفي تأويل من تأول بغير معرفة.
ولو كان ذلك من النبي عليه السلام على طريق الولاء والملك لكان العباس بذلك أولى من علي، لأنه أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منه.
وآخر الحديث [أيضا] يدل على أن ذلك لم يكن لما ذكروه من العلة، وهو قوله (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)، وهذا كله يدل على ما قلنا [5] من تقدمه [على الناس] في الدين وتفضيله على العالمين و [إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما] اختاره [لعلمه] بأنه لا يكون منه تغيير ولا تبديل، وإن حاله واحدة متصلة عداوته بعداوة الله وولايته بولايته، كما اتصل ذلك من النبي عليه السلام.
[وقد ذكرنا من مدلول الحديث ما يلفت نظركم إلى الحق] لتعلموا أن النظر في الحديث يوجب أن النبي إنما أراد بهذا الحديث إبانة علي رضي الله عنه من المؤمنين جميعا، وإعلامهم أن منزلته في التفضيل عليهم والتقدم لهم بمنزلته عليه السلام.