المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة - السيد شرف الدين - الصفحة ٩٦
وعلم حينئذ أهل البحث والتنقيب من أولي الألباب أن هذه أمور دبرت بليل، وأنها عن عهد السلف بها إلى إلى خلفه، وما كانت ارتجالا من يزيد - وما المسبب لو لم ينجح السبب - ثم لم تزل أنوار هذه الحقيقة تتجلى لكل من نظر نظرا فلسفيا في فجائع الطف وخطوب أهل البيت عليهم السلام، أو بحث بحث مدقق عن أساس تلك القوارع، وأسباب هاتيك الفظائع.
وقد علم أهل التدقيق من أولي البصائر أنه ما كان لهذا الفاجر أن يرتكب من أهل البيت ما ارتكب، لولا ما مهده سلفه من هدم سورهم، وإطفاء نورهم، وحمله الناس على رقابهم، وفعله الشنيع يوم بابهم. (1) وتالله لولا ما بذله الحسين عليه السلام في سبيل إحياء الدين من نفسه الزكية، ونفوس أحبائه بتلك الكيفية، لأمسى الإسلام خبرا من الأخبار السالفة (2)،

(1) أقول: أخرج البلاذري في تاريخه قال: لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب، كتب عبد الله بن عمر رسالة إلى يزيد بن معاوية جاء فيها: أما بعد، فقد عظمت الرزية وجلت المصيبة، وحدث في الإسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم قتل الحسين.
فكتب إليه يزيد:
أما بعد، يا أحمق! فإنا جئنا إلى بيوت مجددة، وفرش ممهدة، ووسائد منضدة، فقاتلنا عنها! فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا، وإن كان الحق لغيرنا فأبوك أول من سن هذا واستأثر بالحق على أهله.
(2) قال (رحمه الله): كما شهد به العظماء من فلاسفة الغرب، وإليك ما ذكره المسيو ماربين الألماني في كتابه " السياسة الإسلامية " بعين لفظ المعرب قال من جملة كلام طويل: لا يشك صاحب الوجدان إذا دقق النظر في أوضاع ذلك العصر وكيفية نجاح بني أمية في مقاصدهم واستيلائهم على جميع طبقات الناس وتزلزل المسلمين أن الحسين قد أحيا بقتله دين جده وقوانين الإسلام وإن لم تقع تلك الواقعة ولم تظهر تلك الحسيات الصادقة بين المسلمين لأجل قتل الحسين، لم يكن الإسلام على ما هو عليه الآن قطعا بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانين حيث كان يومئذ حديث العهد، عزم الحسين إنجاح هذا المقصد وإعلان الثورة ضد بني أمية من يوم توفي والده، فلما قام يزيد مقام معاوية خرج الحسين من المدينة وكان يظهر مقصده العالي ويبث روح الثورة في المراكز المهمة الإسلامية كمكة والعراق وأينما حل فازداد - نفرة قلوب المسلمين التي هي مقدمة الثورة من بني أمية، ولم يكن يجهل يزيد مقاصد الحسين وكان يعلم أن الثورة إذا أعلنت في جهة والحسين قائدها مع تنفر المسلمين عموما من جومة بني أمية وميل القلوب وتوجه الأنظار إلى الحسين عمت جميع البلاد وفي ذلك زوال ملكهم وسلطانهم فعزم يزيد قبل كل شئ من يوم بويع على قتل الحسين.
ولقد كان هذا العزم أعظم خطأ سياسي صدر من بني أمية الذي جعلهم نسيا منسيا ولم يبق منهم أثر ولا خبر.
وأعظم دلالة على أن الحسين أقدم على قتل نفسه، ولم تكن في نظره سلطنة ولا رئاسة هو: أنه مضافا إلى ما كان عليه من العلم والسياسة والتجربة التي وقف عليه زمن أبيه وأخيه في قتال بني أمية كان يعلم أنه مع عدم تهيئة الأسباب له واقتدار يزيد لا يمكنه المقاومة والغلبة، وكان يقول: من يوم توفي والده أنه يقتل، وأعلن يوم خروجه من المدينة أنه يمضي إلى القتل وأظهر ذلك لأصحابه والذي اتبعوه من باب إتمام الحجة حتى يتفرق الذين التفوا حوله طمعا بالدنيا، وطالما كان يقول: " خير لي مصرع أنا ملاقيه "، ولو لم يكن قصده ذلك ولم يكن عالما عامدا لجمع الجنود ولسعى في تكثير أصحابه وزيادة استعداده لا أن يفرق الذين كانوا معه، ولكن لما لم يكن له قصد إلا القتل مقدمة لذلك المقصد العالي وإعلان الثورة المقدسة ضد يزيد رأى أن خير الوسائل إلى ذلك الوحدة والمظلومية فإن أثر هكذا مصائب أشد وأكثر في القلوب.
من الظاهر أن الحسين مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين في ذلك الزمان لو كان يطلب قوة واستعدادا لأمكنه أن يخرج إلى حرب يزيد جيشا جرارا، ولكنه لو وضع ذلك لكان قتله في سبيل طلب السلطنة والإمارة، ولم يفز بالمظلومية التي أنتجت تلك الثورة العظيمة، هذا هو الذي سبب أن لا يبقى معه أحدا، إلا الذين لا يمكن انفكاكهم عنه، كأولاده وإخوانه وبني أخوته وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه، حتى أنه أمر هؤلاء أيضا بمفارقته، ولكنهم أبوا عليه ذلك، وهؤلاء أيضا كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر، وعظيم المنزلة، وقتلهم معه مما يزيد في عظم المصيبة وأثر الواقعة.
نعم، إن الحسين بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في إفشاء ظلم بني أمية وإظهار عداوتهم لبني هاشم وسلك في ذلك كل طريق، لما كان يعلم عداوة بني أمية له ولبني هاشم، ويعرف أنه بعد قتله يأسرون عياله وأطفاله، وذلك يؤيد مقصده، ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين - سيما العرب - كما وقع ذلك حملهم معه وجاء بهم إلى المدينة.
نعم، إن ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمد وصباياه أثر في قلوب المسلمين تأثيرا عظيما لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه، ولقد أظهر في فعله هذا عقيدة بني أمية في الإسلام وسلوكهم مع المسلمين سيما ذراري نبيهم، لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر: أني أمضي إلى القتل، ولما كانت أفكار المانعين محدودة، وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسين العالية لم يألوا جهدهم في منعه وآخر ما أجابهم به أن قال لهم: شاء الله ذلك، وجدي أمرني به، فقالوا: إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال؟ فقال: " إن الله شاء أن يراهن سبايا " ولما كان بينهم رئيسا روحانيا لم يكن لهم بد عن السكوت.
ومما يدل على أنه لم يكن له غرض إلا ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وإمارة ولم يقدم على هذا الخطر من غير علم ودراية كما تصوره بعض المؤرخين منا أنه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة على سبيل التسلية: " إن بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة يبعث الله رجالا يعرفون الحق من الباطل، يزورون قبورنا، ويبكون على مصابنا، ويأخذون بثأرنا من أعدائنا، وأولئك جماعة ينشرون دين الله وشريعة جدي، وأنا وجدي نحبهم وهم يحشرون معنا يوم القيامة ".
ولو تأمل المتأمل في كلام الحسين عليه السلام وحركاته يرى أنه لم يترك طريقا من السياسية إلا سلكه في إظهار شنائع بني أمية وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه، وهذا مما يدل على حسن سياسته وقوة قلبه وتضحية نفسه في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره حتى أنه في آخر ساعات حياته عمل عملا حير عقول الفلاسفة ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة، والهموم المتراكمة، وكثرة العطش والجراحات وهو قصة الرضيع.
فلما كان يعلم أن بني أمية لا يرحمون له صغيرا رفع طفله الصغير تعظيما للمصيبة على يده أمام القوم، وطلب منهم أن يأتوه شربة من الماء فلم يجيبوه إلا بالسهم، ويغلب على الظن أن غرض الحسين من هذا العمل تفهيم العالم بشدة عداوة بني أمية لبني هاشم وأنها إلى أي درجة بلغت، ولا يظن أحد أن يزيد كان مجبورا على تلك الإقدامات الفجيعة لأجل الدفاع عن نفسه، لأن قتل الطفل الرضيع في ذلك الحال بتلك الكيفية ليس هو إلا توحش وعداوة سبعية منافية لقواعد كل دين وشريعة، ويمكن أن تكون هذه الفاجعة كافية في افتضاح بني أمية ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونياتهم الفاسدة بين العالم سيما المسلمين، وأنهم يخالفون الإسلام في حركاتهم، بل يسعون بعصبية جاهلية إلى اضمحلال آل محمد وجعلهم أيدي سبأ.
ونظرا لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسين مضافا إلى وفور علمه وسياسته التي كان لا يشك فيها اثنان لم يرتكب أمرا يوجب مجبورية بني أمية للدفاع حتى أنه مع ذلك النفوذ والاقتدار الذي كان له في ذلك العصر، لم يسع في تسخير البلاد الإسلامية وضمها إليه، ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد إلى أن حاصروه في واد غير ذي زرع، قبل أن تبدو منه أقل حركة عدائية، أو تظهر منه ثورة ضد بني أمية.
(٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 91 92 93 94 95 96 96 102 103 104 105 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مقدمة الناشر 5
2 ترجمة المؤلف 7
3 ولادته ونشأته 7
4 دراسته العلمية 7
5 عودته إلى جبل عامل 8
6 أسفاره 9
7 مؤلفاته 10
8 وفاته ومدفنه 12
9 عملنا في الكتاب 13
10 المقدمة الزاهرة لكتاب المجالس الفاخرة 17
11 مقدمة المؤلف 19
12 المطلب الأول: في البكاء 21
13 المطلب الثاني: في رثاء الميت بالقريض 33
14 المطلب الثالث: في تلاوة الأحاديث المشتملة على مناقب الميت ومصائبه 45
15 المطلب الرابع: في الجلوس حزنا على الموتى من أهل الحفائظ والأيادي المشكورة 48
16 المطلب الخامس: في الانفاق عن الميت في وجوه البر والاحسان 51
17 فصل 53
18 فصل 87
19 المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة 121
20 التعريف الكتاب 123
21 مقدمة الكتاب 127
22 المجلس الأول: في البكاء 128
23 المجلس الثاني: في الرثاء 138
24 المجلس الثالث: في تلاوة الأحاديث 149
25 المجلس الرابع: في الجلوس حزنا على الموتى 155
26 المجلس الخامس: في الانفاق صدقة عن الميت 161
27 * الفصل الأول فيما يتلى بتمامه صبيحة العاشر من المحرم، ويتلى مجالس متعددة في سائر أيام العشر، أو في باقي أيام السنة، فهو ليوم العاشر مجلس واحد، ولغيره اثنا عشر مجلسا 167
28 المجلس الأول 169
29 المجلس الثاني 176
30 المجلس الثالث 181
31 المجلس الرابع 185
32 المجلس الخامس 194
33 المجلس السادس 200
34 المجلس السابع 207
35 المجلس الثامن 212
36 المجلس التاسع 225
37 المجلس العاشر 230
38 المجلس الحادي عشر 234
39 المجلس الثاني عشر 240
40 الفصل الثاني في هدي النبي صلى الله عليه وآله وسيرته وذكر خصائصه المقدسة 251
41 المجلس الثالث عشر 253
42 المجلس الرابع عشر 259
43 المجلس الخامس عشر 263
44 المجلس السادس عشر 267
45 المجلس السابع عشر 272
46 المجلس الثامن عشر 277
47 المجلس التاسع عشر 280
48 المجلس العشرون 284
49 المجلس الحادي والعشرون 287
50 المجلس الثاني والعشرون 290
51 المجلس الثالث والعشرون 294
52 المجلس الرابع والعشرون 299
53 الفصل الثالث في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام ومواعظه وارشاداته 303
54 المجلس الخامس والعشرون 305
55 المجلس السادس والعشرون 313
56 المجلس السابع والعشرون 316
57 المجلس الثامن والعشرون 321
58 المجلس التاسع والعشرون 324
59 المجلس الثلاثون 327
60 المجلس الحادي والثلاثون 330
61 المجلس الثاني والثلاثون 333
62 المجلس الثالث والثلاثون 339
63 المجلس الرابع والثلاثون 342