المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة - السيد شرف الدين - الصفحة ٩٦
لم يقل الحسين يوما: سأكون ملكا أو سلطانا، وأصبح صاحب سلطة، نعم، كان يبث روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني أمية واضمحلال الدين أن دام ذلك الحال، وكان يخبر بقتله ومظلوميته وهو مسرور، ولما حوصر في تلك الأرض القفراء أظهر لهم من باب إتمام الحجة بأنهم لو تركوه لرحل بعياله وأطفاله، وخرج من سلطة يزيد، ولقد كان لهذا الإظهار الدال على سلامة نفس الحسين في قلوب المسلمين غاية التأثير.
قتل قبل الحسين ظلما وعدوانا كثير من الرؤساء الروحانيين وأرباب الديانات، وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الأعداء، كما وقع مكررا في بني إسرائيل وقصة يحيى من أعظم الحوادث التأريخية، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلى ذلك العهد، ولكن واقعة الحسين فاقت الجميع.
أقول: وإتماما للفائدة أكثر نذكر بعض عبارات المسيو ماربين الألماني والتي لم يذكرها المصنف رحمه الله هنا:
وقال المسيو ماربين كذلك: الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف هو سبط محمد المتولد من ابنته وحبيبته فاطمة عليهم السلام ويمكننا القول بأنه كان جامعا للأخلاق والصفات المستحسنة عند العرب في ذلك الزمان، ووارثا للشجاعة من أبيه، وأعلم المسلمين بأحكام دين جده، وحاويا بدرجة كاملة للجود الذي هو أحب الصفات، وكان طلق اللسان، فصيح البيان للغاية، اتفق المسلمون بلا مخالف على حسن العقيدة في الحسين حتى أن الطوائف التي تذم أباه وأخاه تمدحه وتثني عليه، وكتبهم مشحونة بذكر ملكاته الحسنة، وسجاياه المستحسنة، وكان غيورا صادقا غير هياب، وإن لغالب فرق المسلمين عقائد عظيمة في الحسين عليه السلام، ولكن الذي نقدر أن نكتبه في كتابنا بكمال الطمأنينة، وبلا خوف المعارضة هو أن تابعي علي عليه السلام يعتقدون في الحسين أكثر مما تقوله النصارى في المسيح عليه السلام، فكما أننا نقول إن عيسى تحمل هذه المصائب لتكفير السيئات، هم يقولون ذلك في الحسين، ويعدونه الشفيع المطلق يوم القيامة، والشئ الذي لا يقبل الإنكار أبدا.
إذا قلناه في الحسين هو أنه كان في عصره أول شخص سياسي، ويمكن أن نقول أنه لم يختر أحد من أرباب الديانات سياسة مؤثرة مثل سياسته، ومع أن أباه عليا هو حكيم الإسلام، وحكمياته وكلياته الشخصية لم تكن بأقل مما هو لسائر حكماء العالم المعروفين، لم يظهر منه مثل السياسة الحسينية.
ولأجل إثبات هذه المسألة يلزم الالتفات قليلا إلى تاريخ العرب قبل الإسلام، فنرى أنها كانت قرابة بين بني هاشموبني أمية، أي أنهم بنو أعمام لأن أمية وهاشم أنجال عبد مناف، ومن قبل الإسلام كان بينهم نفور وكدورة بدرجة متناهية، وحصل بينهم مرارا مجادلات وقتال، وكان كل من الطرفين طالبا ثأره من الآخر، وكان بنو هاشموبنو أمية أعزاء محترمين في قريش، ولهم السيادة، بنو أمية من جهة الغنى والرئاسة الدنيوية، وبنو هاشم من جهة العلم والرئاسة الروحانية، وفي بدء الإسلام ازدادت العداوة بين بني هاشموبني أمية إلى أن فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلممكة، وأدخل في طاعته وتحت أمره عموم قريش وبني أمية، وفي الواقع استولى على رئاسة العرب الدينية والدنيوية، فلأجل ذلك ارتفع قدر بني هاشم بين العرب وإطاعتهم بنو أمية، وأضرم هذا التقدم في الباطن نار الحسد لبني هاشم في صدور بني أمية، وكانوا على استعداد للإيقاع ببني هاشم حقدا عليهم.
فلما توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلماتسع لهم المجال لذلك، فسعوا أولا أن لا يكون الخليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصول ولاية العهد، بل على أصول أكثرية الآراء ولم تدع شدة مخالفة بني أمية أن تكون أكثرية الآراء في الخلافة بجانب بني هاشم، فهنا نال بنو أمية مآربهم، وتغلبوا على بني هاشم.
وبسبب الخلافة تمكن بنو أمية من الحصول على مقام منيع، فسهلوا الطريق لمستقبلهم، وكانوا يسعون في رفعة منزلتهم عند الخلفاء يوما فيوما، وأصبحوا ركنا من أركان السلطنة الإسلامية حتى أصبح الخليفة الثالث منهم، وأصبح بنو أمية متفوقين تفوقا مطلقا في كل عمل ومكان، ووطدوا مقامهم للمستقبل، ونظرا إلى تلك العداوة والثارات التي كانت لبني أمية عند بني هاشم حسب عوائد العرب في ذلك الزمان كان إظهارهم لخلوص العقيدة والنية الصافية للإسلام أقل من سواهم، وكانوا باطنا يرون من العار أن يتبعوا دينا يكون ختامه باسم بني هاشم، ولكثرة المسلمين في ذلك الزمان كان بنو أمية يسيرون وراء مقاصدهم تحت ظل هذا الدين، ولم يعلنوا بمخالفته، وتظاهروا بمتابعته، ولما رأوا أنفسهم في المقامات العالية، ووطدوا مقامهم في الجاه والجلالة، أظهروا تمردهم عن أحكام الإسلام حتى أنهم كانوا في المحافل يستهزئون بدين جاء به بنو هاشم.
ولما رأى بنو هاشم أن الأمر صار إلى هذا، واطلعوا على نوايا بني أمية لم يقعدوا عن العمل، وأظهروا للناس أعمال الخليفة الثالث بأساليب عجيبة، فأثاروا المسلمين عليه حتى آل الأمر إلى أن اشترك رؤساء طبقات المسلمين في قتله، وبأكثرية الآراء أصبح علي الخليفة الرابع.
من بعد هذه الواقعة تأكد بنو أمية أنها ستكون لبني هاشم السيادة والعظمة كما كانت لهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلهذا قام معاوية الذي كان حاكما لبلاد الشام من قبل الخلفاء السابقين، وكان ذا اقتدار ودهاء ونظر بعيد ناشرا لواء العصيان على علي بدعوى أن قتل عثمان كان بإشارة منه وألقى الخلاف بين المسلمين وبتلك الطريقة التي كانت بين العرب قبل الإسلام شهر السيف بينهم.
ومعاوية وإن لم يغلب عليا في هذه الحروب العديدة، لكنه لم يكن مغلوبا، ولم يطل زمن تمرد بني أمية على رئاسة بني هاشم حتى قتلوا عليا عليه السلام وعندئذ تغلب معاوية، وصالحه الحسن الذي هو الأخ الأكبر للحسين وهو الخليفة الخامس، وعادت الخلافة إلى بني أمية فكان معاوية من جهة يسعى في تقوية ملكه، ومن جهة أخرى يسعى في اضمحلال بني هاشم، ولم يفتر دقيقة واحدة عن محوهم.
وكان الحسين مع أنه تحت نفوذ أخيه الحسن لم يطع بني أمية، ولم يظهر مخالفتهم وكان يقول علنا لا بد أن أقتل في سبيل الحق، ولا أستسلم للباطل، وكان بنو أمية في اضطراب منه، وبقي هذا الاضطراب إلى أن مضى الحسن ومعاوية وجلس يزيد في مقام أبيه على أصول ولاية العهد، وأبطلت الخلافة بأكثرية الآراء من بعد علي عليه السلام، ولكن بعد تعيينه لولاية العهد استحصل معاوية على صك بأخذ البيعة له من رؤساء القوم، ورأى الحسين عليه السلام من جهة أن حركات بني أمية الذين كانت لهم السلطة المطلقة والرئاسة الروحانية الإسلامية قاربت أن تزعزع عقيدة المسلمين من دين جده، ومن جهة أخرى كان يعلم أنه إذا أطاع يزيد أو لم يطعه، فبنو أمية نظرا لعداوتهم وبغضهم لبني هاشم لا يألون جهدا في محوهم، وإذا دامت هذه الحال مدة لا يبقى أثر لبني هاشم في عالم الوجود، فلهذا صمم الحسين عليه السلام على إلقاء الثورة بين المسلمين ضد بني أمية، كما أنه رأى من حين جلوس يزيد في مقام أبيه وجوب عدم إطاعته، ولم يخف مخالفته له.