الفرد المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه، مع احتمال أن ما أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاكات (1).
هذا كله حكاية أقوال علمائنا في المسألة. وإنما أطلت في نقلها، لأن هذه المسألة حادثة، أثارها شيخنا الأنصاري (قدس سره) - مؤسس الأصول الحديث - واختلف فيها أساطين مشايخنا. ونكتفي بهذا المقدار دون بيان ما نعتمد عليه من الأقوال لئلا نخرج عن الغرض الذي وضعت له الرسالة.
وبالاختصار: أن ما ذهب إليه الشيخ هو الأولى بالاعتماد، ولكن مع تحرير لقوله على غير ما هو المعروف عنه (2).
وتوضيح ذلك: أن كل عام ظاهر في العموم لابد أن يتضمن ظهورين: 1 - ظهوره في عدم منافاة أية صفة من الصفات أو أي عنوان من العناوين لحكمه.
2 - ظهوره في عدم وجود المنافي أيضا. أي: أنه ظاهر في عدم المنافاة وعدم المنافي معه.
فإن معنى ظهور عموم " أكرم جيراني " - مثلا -: أنه ليس هناك صفة أو عنوان ينافي الحكم بوجوب إكرام الجيران، نحو صفة العداوة أو الفسق أو نحو ذلك، كما أن معناه أيضا أنه ليس يوجد في الجيران من فيه صفة أو عنوان ينافي الحكم بوجوب إكرامه. وهذا واضح لا غبار فيه.
فإذا جاء بعد انعقاد هذا الظهور في العموم مخصص منفصل لفظي، كما لو قال في المثال المتقدم: " لا تكرم الأعداء من جيراني " فإن هذا المخصص لا شك في أنه يكون ظاهرا في أمرين:
1 - إن صفة العداوة منافية لوجوب الإكرام.
2 - إن في الجيران من هو على صفة العداوة فعلا أو يتوقع منه أن يكون عدوا، وإلا لو لم يوجد العدو ولا يتوقع فيهم لكان هذا التخصيص لغوا وعبثا لا يصدر من الحكيم.
وعلى ذلك فيكون المخصص اللفظي مزاحما للعام في الظهورين معا، فيسقط عن الحجية فيهما معا. فإذا شككنا في فرد من الجيران أنه عدو أم لا، فلا مجال فيه للتمسك بالعام في إلحاقه بحكمه، لسقوط العام عن حجيته في شموله له، إذ يكون هذا الفرد مرددا بين دخوله فيما أصبح العام حجة فيه وبين دخوله فيما كان الخاص حجة فيه.
أما لو كان هناك مخصص لبي، كما لو حكم العقل - مثلا - بأن العداوة تنافي وجوب ق الإكرام، فإن هذا الحكم من العقل لا يتوقف على أن يكون هناك أعداء بالفعل أو متوقعون، بل العقل يحكم بهذا الحكم سواء كان هناك أعداء أم لم يكونوا أبدا، إذ لا مجال للقول بأنه لو لم يكن هناك أعداء لكان حكم العقل لغوا وعبثا، كما هو واضح بأدنى تأمل والتفات. وعليه، فالحكم العقلي هذا لا يزاحم الظهور الثاني للعام، أعني ظهوره في عدم المنافي، فظهوره الثاني هذا يبقى بلا مزاحم.
فإذا شككنا في فرد من الجيران أنه عدو أم لا فلا مانع من التمسك بالعام في إدخاله في حكمه، لأ أنه لا يكون هذا الفرد مرددا بين دخوله في هذه الحجة أو هذه الحجة، إذ المخصص اللبي حسب الفرض لا يقتضي وجود المنافي وليس حجة فيه، أما العام فهو حجة فيه بلا مزاحم.
فظهر من هذا البيان: أن الفرق عظيم بين المخصص اللبي والمخصص اللفظي من هذه الناحية، لأ أنه في المخصص اللبي يبقى العام حجة في ظهوره الثاني من دون أن يكون المخصص متعرضا له، ولا يسقط العام عن الحجية في ظهوره إلا بمقدار المزاحمة لا أكثر.
وهذا بخلاف المخصص اللفظي، فإنه ظاهر في الأمرين معا، كما قدمناه، فيكون مزاحما للعام فيهما معا.
ولا فرق في المخصص اللبي بين أن يكون ضروريا أو يكون غير ضروري، ولا بين أن يكون كاشفا عن تقييد موضوع العام أو كاشفا عن ملاك الحكم، فإنه في جميع هذه الصور لا يقتضي وجود المنافي.
وبهذا التحرير للمسألة يتجلى مرام الشيخ الأعظم انه الأولى بالاعتماد.
[هذه التعليقة لم ترد في ط الأولى] (*)