ذلك قوله ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا فكان معلوما، إذ كان معنى الميراث إنما هو انتقال معنى من قوم إلى آخرين، ولم تكن أمة على عهد نبينا (ص) انتقل إليهم كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته، أن ذلك معناه. وإذ كان ذلك كذلك، فبين أن المصطفين من عباده هم مؤمنو أمته وأما الظالم لنفسه، فإنه لان يكون من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون النفاق والشرك عندي أشبه بمعنى الآية من أن يكون المنافق أو الكافر، وذلك أن الله تعالى ذكره أتبع هذه الآية قوله: جنات عدن يدخلونها فعم بدخول الجنة جميع الأصناف الثلاثة.
فإن قال قائل: فإن قوله يدخلونها إنما عنى به المقتصد والسابق قيل له: وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل؟ فإن قال: قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار، ولو لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد وجب أن لا يكون لأهل الايمان وعيد قيل: إنه ليس في الآية خبر أنهم لا يدخلون النار، وإنما فيها إخبار من الله تعالى ذكره أنهم يدخلون جنات عدن، وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التي أصابها في الدنيا، وظلمه نفسه فيها بالنار، أو بما شاء من عقابه، ثم يدخله الجنة، فيكون ممن عمه خبر الله جل ثناؤه بقوله جنات عدن يدخلونها.
وقد روي عن رسول الله (ص) بنحو الذي قلنا في ذلك أخبار، وإن كان في أسانيدها نظر، مع دليل الكتاب على صحته على النحو الذي بينت. ذكر الرواية الواردة بذلك:
22185 حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان عن الأعمش، قال: ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد، فجلس إلى جنب أبي الدرداء، فقال:
اللهم آنس وحشتي، وارحم غربتي، ويسر لي جليسا صالحا، فقال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا لأنا أسعد به منك سأحدثك حديثا سمعته من رسول الله (ص) لم أحدث به منذ سمعته ذكر هذه الآية: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فأما السابق بالخيرات، فيدخلها بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن، فذلك قوله: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن.