وحيث كانت أكبر قدرة - في ذلك العصر - تعني التقدم في الزراعة والرقي الملحوظ من حيث البناء والعمارات، فإنه يتضح رفعة الأمم السالفة وعلوهم على مشركي مكة الذين كانت قدرتهم في هذه المجالات محدودة جدا.
إلا أن أولئك مع كل قدراتهم حين أنكروا آيات الله وكذبوا الأنبياء، لم يستطيعوا الفرار من مخالب العقاب، فكيف تستطيعون الفرار من عذاب الله؟!
وهذا العقاب والجزاء الأليم هو نتيجة أعمالهم المهلكة أنفسهم، إذ ظلموا أنفسهم، ولا يظلم ربك أحدا.
أما آخر آية من الآيات محل البحث، فتبين آخر مرحلة من كفرهم فتقول:
ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون.
أجل، إن الذنب أو الإثم يقع على روح الإنسان كالمرض الخبيث، فيأكل إيمانه ويعدمه، ويبلغ الأمر حدا يكذب الإنسان فيه آيات الله، وأبعد من ذلك أيضا إذ يحمل الذنب صاحبه على الاستهزاء بالأنبياء، والسخرية بآيات الله، ويبلغ مرحلة لا ينفع معها وعظ ونصيحة أبدا، ولا تؤثر فيه أية حكمة وأية آية، ولا يبقى طريق سوى أسواط عذاب الله المؤلمة له.
إن نظرة واحدة في صفحات تاريخ كثير من الجناة والبغاة تكشف أنهم لم يكونوا هكذا في بداية الأمر، إذ كان لديهم على الأقل نور إيمان ضعيف يشع في قلوبهم، ولكن ارتكابهم للذنوب المتتابعة سبب يوما بعد آخر أن ينفصلوا عن الإيمان والتقوى، وأن يبلغوا آخر الأمر إلى المرحلة النهائية من الكفر.
ونلاحظ في خطبة العقيلة زينب (عليها السلام) أمام يزيد بن معاوية في الشام، النتيجة ذاتها التي أشرنا إليها آنفا... لأنها حين رأت يزيد يسخر بكل شئ ويتكلم بكلمات الكفر وأنشد أشعارا من ضمنها:
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل