تفسير الإمام العسكري (ع) - المنسوب إلى الإمام العسكري (ع) - الصفحة ١٤٠
قال: وخلق الذين من قبلكم من سائر أصناف الناس (لعلكم تتقون). (1) قال: لها وجهان: (2)
١) " لعل " لغة للترجي، وفى موارد كلام الله سبحانه للواجب العقلي والشرعي، وقد وردت في مواضع عديدة من القرآن الكريم، مثل قوله: لعلكم تسلمون، تهتدون، تفلحون. فراجع.
وفى استعمال لفظ " لعل في الموارد تنبيه على جعل المشيئة لهم في مقام الطاعة والعصيان كما قال سبحانه: " انا هديناه السبيل اما شاكرا وأما كفروا " و " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ".
وكما في قوله تعالى لموسى في فرعون الذي يعلم حاله وعاقبة أمره " لعله يتذكر أو يخشى " وقد سئل الإمام الصادق عنها فقال عليه السلام: تذكر وخشي وآمن في وقت لم ينتفع به.
أما الاتقاء فأصله: الاوتقاء، ومن وقى الشئ إذا صانه وستره، وتحرز من الأذى والآفات قال تعالى: " قوا أنفسكم وأهليكم نارا " " قنا عذاب الجحيم " " وقاهم الله شر ذلك اليوم " " وما لهم من ربهم من واق " فكأن المتقى إذا لبس التقوى من الله في قلبه لبس حرزا ودرعا حصينا مما يخاف ويحذر. والتقوى ضد الفجر والفجور.
فراجع المعجم المفهرس (فجر): " ونفس وما سواها فالهمها فجورها وتقواها " " بل يريد الانسان ليفجر أمامه " " أم نجعل المتقين كالفجار " كيف جعل الفجور - من فجر العيون - لطغيان النفس وطاعة الهوى.
2) ترى أيكون استعمال لفظ " لعلكم تتقون " لإفادة المعنيين: " اتقاء الله، واتقاء النار " أو أحدهما مرددا؟! أو يمكن أن يكون له مفهوما جامعا ينطبق عليهما بالمطابقة والالتزام؟
أقول: ينبغي ذكر أمور: الأول: أن " اتقوا " في كلام الله متعلق بأمرين: " اتقوا الله حق تقاته " آل عمران: 102، " اتقوا يوما " البقرة: 48، 123، 281 " اتقوا النار التي أعدت للكافرين " آل عمران: 131.
ولا ريب - حقيقة واعتبارا - أن اتقاء الله بطاعته وعبادته سبب لاتقاء النار والوقاية منها، فإذا لم يصرح بما يتقى، فالمراد هو الاتقاء " مطلقا " الذي ينطبق عليهما موردا وقهرا.
الثاني: أن " لعلكم تتقون " متعلقة ظاهرا ب " اعبدوا " دون خلقكم، ونظيره قوله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " البقرة: 183.
الثالث: أنه فرق بين أن يقول " اعبدوا ربكم. لعلكم تتقون " أو يقول " ربكم الذي خلقكم. لعلكم تتقون " فالتوصيف ب " ربكم الذي خلقكم " يشعر بالربط بين الخلق و وجوب العبادة، كما صرح به في قوله تعالى " وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون " الذاريات: 56 فاذن يحصل لنا - من مجموع الآيات: " اعبدوا ربكم الذي خلقكم. لعلكم تتقون ومن التصريح في " ليعبدون "، وآيات في فضل المتقين، وقوله تعالى: " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء " الزمر: 61 " فوقاهم الله شر ذلك اليوم " الانسان: 11 - أن للانسان مراحل من الخلقة إلى استكماله وخلوده في مقام أمين، وأن الله واقيه لا يمسه سوء ولا شر من اليوم الموعود.
واجماله أن الله أراد أن يعبد، فخلق الخلق، ثم هداه إلى معرفة ذاته وقدرته وجلاله وألهمه الفجور والتقوى ليكون بالمشيئة: اما شاكرا، واما كفورا، ثم يختار أن يكون عن معرفة وتذلل عبدا لله مطيعا خاضعا، ثم يطيعه لا يعصيه اتقاء بعبادته تسبيبا إلى اتقاء النار التي وعدها الله الكافرين فإذا اتقى ولبس درع التقوى وعبد، فكأنه احترز بحرز لا يمسه سوء.
فإذا عرفت ذلك، أقول: " لعلكم تتقون " جامع مطلق لم يخص باتقاء الله أو النار، فله التوجيهان والتوجيه بأيهما صحيح يفيد مفهوما انطباقيا.
فإذا وجه قوله " لعلكم تتقون " - طبقا للموضوع المتسلسل المتقدم - إلى " خلقكم " فالمناسب اتقاء الله بعبادته المستلزم لاتقاء النار. وإذا وجه إلى " اعبدوا " فالمناسب اتقاء النار الحاصل بالعبادة المستوجب لما حتم الله على المتقين بقوله " ينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم سوء العذاب ".