مجئ " من " للبدلية، فقالوا: التقدير أرضيتم بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة، فالمفيد للبدلية متعلقها المحذوف، وكذا الأخيران، وإن كان هذا أيضا يجري ههنا لكنه خلاف الظاهر.
والظاهر أن حملها على التبعيض أقرب من الجميع، مع موافقته للأخبار الصحيحة ، ولذا اختاره صاحب الكشاف الذي هو المقتدى في العربية وخالف الحنفية القائلين بعدم اشتراط العلوق، مع توغله في متابعة أقوالهم وتهالكه في نصرة مذاهبهم، قال في الكشاف:
فان قلت: قولهم إنها لابتداء الغاية، قول متعسف، فلا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب، إلا معنى التبعيض؟ قلت: هو كما تقول، والاذعان للحق أحق من المراء.
وقد يقال: عدم فهم العرب من هذه الأمثلة إلا ما ذكره، قد يكون للغرض المعروف عندهم من التدهين والتنظيف، ونحو ذلك، مع إمكان المنع عند الاطلاق في قوله من التراب، على أنه يمكن أن يقال: إنها في الأمثلة كلها للابتداء، كما هو الأصل فيها، وأما التبعيض فإنما جاء من لزوم تعلق شئ من الدهن والماء باليد، فيقع المسح به، ونحوه التراب إن فهم، فلا يلزم مثله في الصعيد الأعم من التراب والصخر.
قيل: والانصاف أنها إن استعملت فيما يصلح للعلوق، وإن كان باعتبار غالب أفراده، كان المتبادر منها التبعيض، وإن استعملت فيما لا يصلح لذلك كان المفهوم منها الابتدائية، وعدم صلاحية المقام لغيرها قرينة عليها.
وما يقال من أن حملها على التبعيض غير مستقيم، لان الصعيد يتناول الحجر كما صرح به أئمة اللغة والتفسير، وحملها على الابتداء تعسف، وليس ببعيد حملها على السببية، وقد جعل التعليل من معاني " من " صاحب مغني اللبيب وعلى تقدير أن لا يكون حقيقة فلا أقل من أن يكون مجازا، ولابد من ارتكاب المجاز هنا، إما في الصعيد أو في " من " ولا ريب أن التوسع في حروف