" واللذائذ الحسية، عاقبتها الألم والحزن، فلا يجري العاقل وراءها.
والذي ملك حواسه ونفسه في هذه الحياة، فهو الناسك حقا، وهو الذي فاز بنعمة راحة البال. إنه يجد الطمأنينة والراحة، والنور في روحه، ويصل إلى النجاة بفنائه في الخالق، ولا يسعد بهذا إلا من نسي نفسه، وقهر هواه، ولا يزال في عمل مستمر لمصلحة الناس عامة.
" وليس الناسك من يتشبث بظواهر النسك وحدها، فلا يمس النار، ويفعل هذا ولا يفعل ذلك كالمتنطعين. إنما النسك كيفية قلبية، لا هيئة خارجية، فالذي لا يبالي بالعواقب في أداء واجبه، فهو الناسك الصادق، والذي يتخلى عن واجباته في الدنيا، فهو ليس من النسك في شئ.
" ليس للإنسان صديق إلا نفسه، وليس له عدو إلا نفسه، ومن تغلب على نفسه فهو صديق نفسه، ومن قهرته نفسه، فهو عدو نفسه، فمن غلب نفسه فأصبح لا يبالي بالحر والبرد، بالراحة والألم، بالسراء والضراء فهو صاحب الروح الأكبر، ومن يرى الصديق، والعدو، القريب، والبعيد، السعيد، والشقي، بعين واحدة فهو المهتدى.
" ليست النجاة للذين افتتنوا بالدنيا، ولا للذين هجروا الدنيا فارين من واجباتهم، بل هي للذين يلزمون الطريقة الوسطى، فلا يفرطون ولا يفرطون، في مأكلهم، ومشربهم، وملبسهم، ومسكنهم، إنهم وسط في كل شئ، فيستريحون كما ينبغي، وينصبون كما ينبغي.
" والناسك الحق هو الذي يرى وجوده في وجود الآخرين، ووجودهم في وجوده.
وهو الذي لا يفرق بينه وبينهم، بل يدرك الله في الجميع ويدرك الجميع في الله.
فمن كان هكذا، فعلاقته بالله وثيقة لا انقطاع لها. فالذي يحمد الله في خلقه وينسى نفسه، فهو مع الله أينما كان وحيثما كان ومن يرى سعادة الآخرين وشقاءهم، سعادته وشقاءه فهو حبيب الله حقا ".