المحسن إن الكثير منا يملك العلم والذكاء، ولكن ماذا يجدي العلم والذكاء إذا أديا إلى لغو لا خير فيه! وماذا يجدي الجاه والمال إذا كانا سببا للتحاسد والتباغض!
بل ماذا تجدي الهجرة إلى النجف والأزهر وأكسفورد والسوربون إذا لم تكن لغايات إنسانية ولم تدفع بالحياة إلى التقدم وكيف تتقدم بنا الحياة أو نتقدم بها، إذا كنا نجهل الحياة، وتستعبدنا الشهوات!.
لقد انبعثت نفس الفقيد من صميم العصر الذي عاش فيه، وتجرد عن ذاته وغايته، فكان كفوءا لكل ما ألقي عليه من مسؤوليات، تسعين عاما من حياته قضاها مجاهدا في سبيل العلم والخير مدافعا عن الحق دفاع من لا يبغي حطاما، ولا يخشى سلطانا، فكان في عاملة والعراق ودمشق لا وزن عنده إلا للحق، ولا فضل إلا لعامل على خير الوطن والصالح العام كائنا من كان سنيا أم شيعيا، مسلما أم غير مسلم، وهذه هي السبيل الواضحة التي يصل منها الإنسان إلى العظمة المطلقة التي تتخطى حدود الأمصار والأديان، لأنها كالشمس فوق الحدود جميعا، لقد كان الإنسان إنسانا قبل أن يكون شرقيا أو غريبا، وقبل أن يكون مسلما أو نصرانيا، وهكذا العظمة وحب الخير لا يجنسان جغرافيا ولا تاريخيا ولا دينيا، ولا هوية لهما غير حقيقة الإنسان بمعناه الشامل، إن الزمان والمكان لا يغيران شيئا من حقيقة الإنسان، وإنما هما ظرفان لما يقوم به من أعمال، وأن معنى الدين هو الشعور بالمسؤولية تجاه أخيك الإنسان، ومعنى الإيمان هو إخضاع حياتك لهذا الشعور، أن المسيح لا يريد النصراني الماروني أو الرومي وإنما يريد النصراني الإنساني، ومحمد لا يريد المسلم السني أو الشيعي، وإنما يريد المسلم الإنساني، هكذا فهم الفقيد الإسلام والإيمان فأخضع حياته لهذا الشعور، وبهذا كان عظيما عند المسيحيين كافة والمحمديين كافة.
وربما يتساءل المرء: كيف اجتمعت هذه العظمة مع تلك الحياة المتواضعة التي كان يحياها الفقيد والبساطة في مظاهرة في مأكله وملبسه ومسكنه، فلا بواب ولا حجاب، ولا سيارة فخمة، وبناية ضخمة، وقد رأيته، وأنا جار له في الشياح واقفا في دكان قصاب يشتري اللحم ويحمله بيده إلى أهله، ورأيته منفردا متثاقلا يدفع بجسمه المريض المتهدم يزور العمال البائسين في بيوتهم،